الترويض وصناعة الخوف // نايف المصاروه.

=الترويض في اللغة مردها إلى الفعل راضَ، اي طوع وذلل. يُقال: “راضَ المهر” أي ذلله وطوعه وعلمه .أما “روَّض” بتشديد الواو  وفتحها، فمعناه بالغ في التطويع والتعليم.

أي أن الترويض…في مفهومه العام، هو  الإخضاع  والتطويع ،أو تغيير للسُّلوك بدافع الثواب والعقاب.

من أشكال الترويض… ما نراه من تطويع لبعض الحيوانات والطيور والزواحف ، كتلك الأسود والنمور والخيول وغيرها، التي نراها في اقفاص السيرك، فتتغير  من مفترسة إلى وادعة ، تحت واقع الإغراء، أو بسبب الخوف من سياط ” السادة” المدربين.

والترويض منه الإيجابي والسلبي، فأما الإيجابي، كأن  “يروض المرء نفسه” فيعالج سلبياته، ويقوم إعوجاج سلوكه، كي ينسجم مع الصواب .ومنه أيضا الترويض بالتأثير على الغير، لترك كل سلوك او فعل مذموم، والتخلق بالأخلاق والسلوك المحمود.

وأما الترويص السلبي، فيكون بالإختيار او الإجبار من الغير وتأثيره ، لترك الفضائل او القناعات، والعمل بما يضادها والمخالف لها،او بترك طريق الحق، وإتباع سبيل الباطل، تحت واقع الخوف او الإغراء بالمال او المنصب والجاه.… وما أكثر الذين  تم ترويضهم!

قرأت ان مجموعة من اهل التخصص ، وضعوا مجموعة  من القرود في قفص واحد، وفي وسط ذلك القفص وضعوا سلم، وفي اعلاه وضعوا  بعض من الموز.تسابقت القرود كلها للوصول إلى  الموز ،فقام اهل التخصص برش كل قرد تسلق السلم بالماء البارد، وبشكل مبالغ فيه ، بينما رشت بقية القرود ببعض الرذاذ .وتكرر ذلك  لفترة من الوقت، مع بقاء المراقبة والمتابعة لتغيرات  سلوكها ،و لاحظوا أن تغيرا طرأ عليها ، إذ ان كل قرد يحاول ان يصعد السلم لتناول الموز  ، يقوم بقية القرود  بمنعه وضربه بقوة، ليتراجع عن فكرة الصعود.

وبعد فترة من المتابعة،وبالرغم من حالة الخنق والجوع،طرأ تغير جذري على سلوك القرود ، حيث لوحظ انه  لم يعد  اي من القرود ، يحاول صعود السلم   لاخذ الموز.فأثبتوا  ان  عاملي الترويض والخوف من الرش بالماء، أو التعرض للضرب من بقية  المجموعة،هما السبب في ذلك التغير السلبي .

بعدها قرر اهل التخصص.. ان يقوموا بتبديل أحد قرود  المجموعة ، بقرد آخر من خارج القفص ، وعلى الفور قام القرد الجديد بصعود  السلم ليأخذ الموز، ولكن وعلى الفور كانت ردة فعل  بقية القرود ، بمنعه وضربه وإجباره بالقوة  على النزول عن السلم.

ثم قام أهل التخصص بتكرار عملية تبديل القرود بغيرها ، فحل بكل قرد جديد  ماحل بمن سبقه من الضرب والمنع، ففهم كل قرد  بأن عليه أن لا يصعد السلم، مع أنه لا يدري ما هي دوافع الرش.. او سبب المنع من البقية.

حين تم تبديل القرود  الأولى  كلها بقرود جديدة، لم تتعرض للرش.. ، ومع ذلك ترسخ في اذانها، الخوف من الرش والمنع ،فأصبحت المجموعة تضرب  أي قرد تسول له نفسه صعود السلم، بدون أن يعرفوا السبب.

اتذكرون…المثل السلبي  “حط راسك بين الرؤوس، وقول دونك يا قطاع الرؤوس؟

إلا أنه وفي أحد الأيام ، حصل ما لم يكن يتوقعه اهل التخصص ، إذ صعد احد القرود على السلم، وبالرغم من التعرض للرش وبقوة والضرب من قبل البقية، الا انه استمر في الصعود ، الى ان وصل إلى الموز، فالتقط منها حبة وأكلها، ثم اتبعها بأخرى وأخرى إلى أن شبع ، ثم حمل معه بعضا من الموز، واعطاها لبقية المجموعة.

استغرب أهل التخصص ما حدث، وعادوا إلى رش رذاذ الماء البارد، ولكن هذه المرة… تغير سلوك القرود بشكل جذري، وعادت إلى طبيعتها وسلوكها وإيجابيتها ، فلم تعد تتأثر  برش الماء، بل  لوحظ.. انه كلما رشت القرود برذاذ الماء، إزدادت شراستها للتسلق والصعود ، وزدادت شهيتها لأكل الموز.

التجربة التي مرت بها  القرود ، والتأثير السلبي عليها لتغيير سلوكها، من خلال الرش والمنع، تمثل واقع صناعة الخوف والسقوط والإرتجاف، وهي واقع عملي .

تتجلى صورها   من خلال علاقة بعض الدول الكبرى بأغلب الدول الصغرى، تلك العلاقة القائمة على التبعية، والسمع والطاعة، وأي دولة صغرى تخالف او تتمرد، يتم رشها برذاذ المنع من الهبات والمنح.ويتم تجميدها ومحاصرتها ثم محاربتها ، بتهم شتى منها رعاية الإرهاب او إنتهاك حقوق الإنسان، أو معاداة السامية وغيرها !

كما  يتجلى واقعها في حياة معظم شعوب بعض الدول ، من خلال التأثير السلبي من السلطة على الفرد او عامة الجماعة، بترسيخ مفهوم  ” أن  الخير يخص والشر يعم” ، وأن إرتكاب فعل صعود السلم، وإن كان صحيحا، فإن العقوبة  ستكون بالرش والمنع، أو بالسجن والإعتقال، أو بالحرمان من بعض الحقوق الدستورية.

ولأننا في عالمنا العربي بالذات، لدينا خوف متجذر من سطوة السلطة  ،قد يكون ذلك  بسب أزمنة الإستعمار سابقا، وما تبعها من لجم  للحريات ، وتكميم للافواه .

وبكل اسف فإن واقع الرش.. وصناعة الخوف تجذرت في حياتنا  منذ نعومة الأظافر ، فمثلا.. عند بكاء الطفل لسببب ما، يكون رد الأبوين او أحدهما،  تعال له يا شرطي…!

وفي زمن التقنيات وثورة الانترنت، هناك تطبيق ” غبي” على بعض الهواتف الذكية، فما ان يقوم الطفل بالبكاء، لأي سبب ما.. ، يقوم الاب او الام، بالضغط على كبسة التطبيق، فيكون اتصالا  بمركز أمني ويأتي التهديد.. بالإعتقال، وبلسان عربي مختلف، وبكل اللهجات .

هكذا تتم صناعة الترويض والخوف وواقع الرش… والمنع  والتخدير بمختلف مسمياته.مع أننا في طبيعتنا كعرب نرفض الضيم ونأبى الظلم، وقد تولدت فينا الأنفة والكبرياء مبكرا، عندما كنا  ننشد صباحا  في الطابور المدرسي ،بلاد العرب اوطاني، وفلسطين داري ،وموطني وغيرها.

وتولدت فينا العزة والإباء ، عندما  نقرأ في قرآننا وكتاب ربنا، الذي يربي ويعلم،او من خلال  كتب اللغة العربية والتاريخ،عندما كنا نقرأ عن بطولات وانتصارات الأسلاف وفتوحاتهم، ثم كيف تحولوا وتروضوا بسبب  الإغراء والكيد والرش.

وترسخ في أذهاننا ان كيد الأعداء مستمر، ومن ذلك القضاء على دول الخلافة كلها ، إلى أن تشتت العرب وتفرقوا، ووقعوا تحت الاستعمار، بعد أن كانوا أحرارا.

ثم كيف كانت خديعة ما يسمى بالإنتداب، وكيف احتلت فلسطين، ثم منحت للصهاينة بموجب وعد بلفور المشؤوم.أين ذهبت كل تلك الدروس، ولماذا  تحولت  مناهج التعليم إلى ترسيخ واقع الإنهزام ؟لله درهم مسخوها… حتى” عمي منصور النجار” ،” وباسم ورباب وسالم وخديجة ” ، تم طمس معالمها لأنها تمثل شيئا يعنينا.وابتلينا ببعض وسائل الإعلام ، وما يذاع ويبث فيها من برامج السفه والإنحطاط وإثارة الغرائز ، وإذابة الهوية والحمية.وسائل عدة، وتعليف بصورة التعليم رسخ فينا، بأننا العالم الثالث، وجذروا فينا، حقيقة وواقع التخلف وثقافة الإستهلاك  فقط ، بعد أن أوقفوا عقول بعضنا ، عن الإبداع والتفكير، تحت تأثير الرش..؛كما رسخوا في أذهان الناشئة ، أن الغرب هو العالم الأول ،يأكل ويلبس مما يزرع ويصنع، ويعيش واقع الرخاء والحرية، فأصبح حلم الأغلبية منا بالهجرة والتغرب.وأجيال نشات وهي في كل يوم تسمع وترى، ان بعض الدول.. ، تملك مفاتيح العطاء والمنع، ومن ترضى عنه، يسعد ويغنى، ومن تسخط عليه يذل ويشقى.أجيال.. نشات وتعيش واقع الرش،فتسمع وتقرأ وترى ، بان إسرائيل تفعل ما يحلو لها، لأنها تمتلك القوة العسكرية والنووية،!ويسوقونها لنا بأنها دولة جارة وصديقة ،والسلام معهم واقع وخيار لا بد منه ، مع انهم كصهاينة  يقتلون الشقيق الفلسطيني صباح مساء ، ويحتلون ارض فلسطين منذ عشرات السنين؛وانظر حولك.. لترى واقع الدمار في ديار العرب، وكم نحتاج من الأموال لإعادة الإعمار في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين؟والسؤال.. الذي يراودني بإستمرار،لماذا في كل مؤتمر لإعادة الإعمار،يحضر صناع الدمار ويتبرعون… ؟وإذا كانوا سيساهمون في الإعمار لماذا إذا دمروا بلادنا ؟مؤلم ومحزن واقعنا، ففي كل بلدان الدنيا،لا تجد إلا شعوب العرب مشردين ولاجئين، وبعضهم يموت في البحار، أو تلفظهم الأمواج على الشواطئ..!تصور يا رعاك الله..أن طفلة عربية تسكن مع اسرتها في أحد مخيمات اللجوء والنزوح، بعد أن  شردتها وأسرتها حروب الردة والإرهاب الأعمى، والرجعية والتبعية والتخلف الطائفي.تلك الطفلة.. حلمها بل أقصى تفكيرها، انها تريد ” خيمة فقط… تقيها وأسرتها برد الشتاء وحر الصيف”، ترى من الذي اوصل شعبنا العربي إلى هذا الحال؟مع ان بعض سادتنا أقسم بأنه سيرعى مصالح الشعب رعاية كاملة؛فهل رعوها حق رعايتها؟ختاما~ متأكد تماما  بأننا كشعوب وبطول صمتنا وسكوتنا، صنعنا واقع الرش والمنع، الذي اورثنا الذل واذاقنا الوان الظلم والضيم .ومتأكد اكثر بأن لكل بداية للظلم  نهاية مع العدل ، وأن التجارب  أثبتت ان سياسة المنع والرش..، وإن طال زمانها ،فإنها ستزول أمام سطوة الحق، أو بسبب شهوة الجوع والتمرد .ومن المسلمات العلمية، أن لكل فعل ردة فعل ،وهو ما حصل مع القرود وتمردها على واقع الرش والمنع.على مستوى الدول، نرى دولا من عالمنا ، تنجح في قيادة الدفة، بعد أن كانت تقاد ، وتتصدر القائمة بعد أن كانت في ذيلها،وذلك يسعدنا ونتأمل المزيد.وعلى مستوى الشعوب،فقد رأينا ما حدث في سيرلانكا ، من ثورة على الذل والجوع؛وبواكير صحوة مثلها في بعض بلاد العرب ، ولكن الذي يجب الإشارة والتنبيه إليه، هو التحذير دائما.. من إراقة الدماء أو الإضرار بالمؤسسات العامة او الخاصة.وليعلم أن الإصلاح الحقيقي، هو الذي يقوم على احقاق الحق، وإبطال الزيف،ولا ولن يكون بسفك الدماء أو بازهاق الأنفس أو التخريب.نعم لكل رفض او تعبير او ثورة ، على واقع الرش والمنع  والتجويع ،ولكن… لا وكلا للتخريب والدمار  في ثوب الثورة،إلا  مع اليهود فواجب الرد بالمثل وزيادة .

كاتب وباحث أردني.

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة