العسس …واسترداد عمر/عاطف الصبيحي
همّ الفاروق في إحدى الليالي للخروج لتفقد أحوال الرعية فقالت زوجته :ألا يكفي النهار فرد عليها : وجزءاً من الليل.
مناسبة الحديث هو ما نلحظه من الزيارات المتتابعة للميدان من طاقم الحكومة بتوجيه من جلالة الملك قائد المسيرة وولي عهده بتحسس الحاجات عن كثب، وكل حسب اختصاصه، وامتثل الرئيس لتلك التوجيهات الملكية بالتواجد في الميدان وزملاؤه، للاطلاع عن كثب على الواقع بكل تفاصيله الإيجابية والسلبية، فمن رأى ليس كمن سمع أو نظر في تقرير، وإنها مهمة طالما غابت عن جدول يوميات الوزراء أمدًا طويلًا، فإن إحياء تلك السُنة الحميدة أحيت في النفوس أملًا في الإصلاح وسد الثغرات، وتواقتها مع تشكيل اللجنة الملكية للتحديث السياسي جعلت المواطن يرنو ببصره إلى ما تُسفر عنه من نتائج بفارغ الصبر.
تحسس الميدان والوقوف على حاجاته واحتياجاته هو الشرط الشارط لايقاف النزيف، وتجميد الخسائر، والشروع في البناء الصحيح، والعسس الممنهج يوفر فرصة للوصل والتواصل بغية التجديد بهدف النهوض، وهي انجع المنهجيات التي تتوافق مع حديث رسول الله» ص» كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته….».
التمترس خلف المكاتب، والتشبث بالبيروقراطية والروتين المزعج القاتل، لا يولد فرصة لنمو قرار سليم، من البرج العاجي للوزير، فالراعي لا بد أن يُعاين الواقع بعين الرأس وعين العقل، وبالدراسة والمشورة مع أهل الميدان الأصدق قيلًا عن معوقاتهم، يتولد القرار السليم، ويبث الطمأنينة والحماسة في جنود الميدان الذين هم عماد البلد وعموده الفقري.
الزيارات الميدانية المباركة ينبغي أن تتظلل بشعار :لا خير فيكم إن لم تقولها ولا خير فينا إن لم نسمعها، يسمع المتعسس بصدر فوّار بالتواضع وخفض الجناح، ويقول أهل الميدان بصدر لا تشوبه شائبة الخوف ولا تخالجه رعدة الهلع والوجل على وظيفته ومصدر قوته، وكلا الطرفين قلوبهم مترعة بالانتماء لتراب هذا الوطن وإنسانه.
لن يتحقق شيء في الأعيان ما لم يتحقق في الأذهان، فالقناعة بالزيارات الميدانية وبجدواها لهي أمر بالغ الأهمية في مسيرة التصحيح والتحديث، فالمؤمن بعمله لا يعوقه عائق، ولا يصده صراخ معارض، ولا يثنيه غمز مُشكك ولا لمز متشائم.
الحمد الخالص من شوائب المصلحة أمر لا غِنى عنه في الشأن العام، فلا ينبغي لأي منتم انتماءً واعياً أن يصده أخطاء وقعت هنا وهناك لأن يتخذ موقفًا مُعارضاً دوغمائياً من كل فعل يصدر عن الحكومة، فالمروءة السياسية تتطلب أن نعارض حين تستوجب الأخطاء ذلك، وأن نُثني ونقول أحسنتم حين نرى الإحسان، وإلا نكون حشرنا أنفسنا بخانة المعارض من أجل المعارضة، تلك خارمة للرجولة وللفكر السياسي ومثلبة أخلاقية، وعورة في الانتماء للوطن، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
النقد المنتمي أمر لا يستوجب حشر الأنا في أقصى وأضيق مكان حين يتعلق الأمر في المصلحة العليا، وهذا ليس من باب الإنشاء بل تجارب الأمم كلها دلت على صحة هذا المبدأ، لم يكن أحد أكثر أسئلة من عمر بن الخطاب للرسول الكريم، فلم يتبرم به الرسول يومًا لمعرفته بطوية هذا الرجل وغيرته على مصالح الأمة العليا، وكم من موقف حاول الفاروق إبداء رأي مخالف في ما لا وحي فيه، فلا النبي الكريم منعه، ولا الفاروق وجد في نفسه حرجًا من إبداء ما يراه في مصلحة الأمة.
النقد الذاتي قبل النقد الغيري بعقول منفتحة ونفوس طامحة للتحديث لهو العتبة الأولى التي يجب أن نتخطاها بثقة ونية حسنة في مسيرة التحديث، ولا يطمع أحد بالتقدم خطوة بدون نقد انتمائي عقلاني وجداني حقيقي، وآن الأوان أن يتواقت مع هذا نكران الذات لصالح الذات العامة، ولن يطول بنا المُقام حتى نرى تلك البذور قد أينعت وربت بإذن الله.
الدستور
التعليقات مغلقة.