الفحيص عاشقة الفن والثقافة والإبداع الخلاق

يأخذنا فريق «مسارات» الاستكشافي بقيادة الفوتوغرافي عبد الرحيم العرجان هذه المرة الى مدينة الفحيص العريقة، حيث حطت رحال الفريق الأسبوع الفائت في المدينة التي كانت قبل عقود قرية صغيرة ثم تحولت الى مدينة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية وشهدت نهضة عمرانية ونشاطا اقتصاديا كبيرا.
أرض الشهامة والكرم
نترك الحديث حول الرحلة للفنان الفوتوغرافي والباحث عبد الرحيم العرجان: ما بين بيوت قديمة، وحصن منيع، وقصور وبيادر، وبيارات وبرج تاريخيّ، كان مسارنا بأرض الفكر ومضرب المثل بالشهامة والكرم.
بدءاً مع ساعات الفجر الأولى من الدير القديم المتربع على التل، كالجوهرة بين ممالك عمون وجلعاد وحشبون، مرقباً لدروب بيت المقدس، ومحط بريد حمام المماليك الزاجل حاملاً رسائل البلقاء لقلعة عمان، بتاريخ تكشف التنقيبات فيه عن عصور تقادم ساكنيه عبر الزمن وبراعتهم بصناعة أسلحة الحديد، وفروسية أهله التي استمد اسمها من صفة المناعة «عش النسر» المنسوبة إليه وشدة رجاله «صبيان الحصان» بلقبٍ عرفوا فيه بكل بلاد الشام والجزيرة حتى بلاد اليمن.
وبرج التل دائري الطراز بحجارته الضخمة المشابه للرجم الملفوف بعمان كأنهما توأمان بشكلهما الخارجي باختلاف الغاية والاستخدام حين أن رجال الدين حولوه لكنيسة بزمن البيزنطينين بعد أن غدا تحت السيطرة الرومانية 64 ق.م وأقاموا حوله العديد من المساكن مستكملين الكهوف وأنشأوا نظام مائياً مدروساً بقنوات وآبار بقيت تستخدم لزمن ليس ببعيد، ومعاصر زيتون ونبيذ ولليوم أهل البلدة يصنعون نبيذهم بأيديهم من عنب أراضيهم، ليُعيد التاريخ مجده للمكان بإعادة بناء قصور وفلل من عصرنا الحديث لجمال موقعه وعليل هوائه وعمق آفقه، بين ما تبقى من أشجار السنديان والملول المعمرة بعد أن توقف مصنع الإسمنت فيه منتظرين إخلاء معداته.
كان مسارنا جامعا بين الريف والمدينة بين مساكن وبيوت متخللين كروم كان لنا نصيب مما خرج عن أسوارها وتدلى على الطريق من طيب ثمارها، فثمر الطريق لعابريها، وبين حقول خضار صيفية «مقاثي» ترتوي من ماء الندى انتصب عباد الشمس ملوحاً بأوراقه تحسبه الطيور بشراً فلا تقترب من البذار والثمر، لنصل لقلب البلدة التي أنجبت مفكرين وكتّابا وأصحاب ريشة وقلم، ليكون الإفطار ببيت خلدون الداود مؤسس رواق البلقاء بين منحوتات وأعمال فنية تحت أشجار تغنى تحتها فطاحل الشعراء ورسم فيه قامات اللون والفنون برسائل عبرت الحدود، وكتب كان لنا أن نكون ممن كان له أثر بمحتواها.
مدينة الابداع
ومن هناك للمرسم المطل على دربنا بالوادي الأزرق للفنان حسن جلال ذي الأسرار بمحتويات لوحاته وشخصيات تحسبها تنطق من براعة ريشته وقوتها والألوان، أبى إلا أن تكون من صنع يده كالساحر المتجلي بدرجاتها وقوة ثباتها.
لنصل لقلب الحارة العتيقة وكأننا نسمع بين نوافذها صوتا رخيما بشعر يتعالى كلما اقتربنا منها بهدوء المكان ورائحة الياسمين، صوت جريس سماوي «رحمه الله» الذي استعجل الرحيل وطيف اللحظة فروحه ما زالت بالمكان الذي أحب وانتمى.
هناك بالحارة التي حولها أبناء خلدون بإصرارهم عبر سنين لحارة إبداع ورواق فنون محافظين على بيوت وتاريخ أجدادهم المعتزين بهم، معيدين الحياة تحت قناطرها كأنهم غادروها قبل مساء فأحيوا بذكائهم وحكمة أبيهم مرابط الخيل لأهل البلدة والعابرين، وهناك بالمقهى العتيق كانت الاستراحة الثانية قبل دخول الوادي وشعابه. تخللنا ساحة مهرجان البلد السنوي لوادي الأكفش بين صخور ندر أشجارها إلا من بعض نباتات الصيف والأشواك، وقد اعتلا جباله الفاصلة بيننا وبين طريق السلط بيوت تطل عليها بحداثة طرازها لنصل لقلب الوادي العميق لنقطة التقائه مع الوادي الأزرق الرافد لوادي نبي الله شعيب قرب مقامه.
ومن بين بساتين كرمة وزيتون وأسوار صبر وتين قبل انتهاء الوادي كان دربنا على خطى رعاة الماشية نحو قمة التل بصعود حاد وبفارق 450 متر ارتفاع وصولاً لشجرة السنديان التي رقد أسفلها بعض من أهالي المكان بمثواهم الأخير، ومشرفة على الوادي وشعابه تلة علوان «السفيانية» وعليها ضيعة بقنس المنسوبة لأبي سفيان حيث كان يحط رحاله ويستريح بطريق تجارته في بلاد الشام، وأرّخها البغدادي وذكرها ياقوت الحموي في كتابه.
وبعد استراحة أعادت لنا هدوء الأنفاس بعد تسارعها استكملنا طريقنا عبر عروق الصخر وصولاً لنقطة النهاية قرب محطة التنقية، وضمن محيطها آثار لكهوف وتوابعها من مساكن وأحواض رحى اختلفت أحجامها وقنوات وأحواض تجميع ومصاف لمعاصر زيتون رومانية وبيزنطية وإسلامية ويفصل بين أجزائها الطريق المعبد بالوادي تحت مسمى خربة السوق.
لنختتم مسارا متعدد المشاهدات والثقافة والفكر بمستوى متوسط الصعوبة بمسافة 21 كم ونعود محملين بتوت متعدد ألوانه وفقوس مما كان يُباع على طريق العودة من بساتين السلط وكرومها.

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة