فَكَّرَ قَلِيلًا !// هْبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ

قَصَتْ مُعَلَّمَةُ سُقْرَاطَ عَلَيْهِ قِصَّةً لِتَجْعَلَهُ يُحِبُّ الِاسْتِيقَاظَ مُبَكِّرًا لِلْمَدْرَسَةِ فَقَالَتْ لَهُ:

كَانَ هُنَاكَ عُصْفُورَانِ أَحَدُهُمَا اسْتَيْقَظَ مُبَكِّرًا وَ أَكَلَ الْحَشَرَاتِ وَ أَطْعَمَ صِغَارَهُ وَ الْآخَرُ اسْتَيْقَظَ مُتَأَخِّرًا فَلَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُهُ ، مَاذَا اسْتَفَدْتَ مِنْ الْقِصَّةِ يَاسْقْرَاطَ؟ فَقَالَ:

الْحَشَرَاتُ الَّتِي تَسْتَيْقِظُ مُبَكِّرًا تَأْكُلُهَا الْعَصَافِيرُ .

سُقْرَاطْ يُمَثِّلُنِي .

صَبَاحُ الْخَيْرِ هَهْهُهُهُهْهْهُهُهُهَهَهُ..

أَشْعُرُ ، لَا بَلْ أَكَادُ أَجْزَمُ أَنَّ الِاسْتِيقَاظَ مُبَكِّرًاً هُوَ مُشْكِلَةٌ تُوَاجِهُ الْكَثِيرَ مِنْ النَّاسِ ، وَلَيْسَتْ مُشْكِلَتِي أَنَا فَقَطْ ،بَلْ هِيَ مُشْكِلَةُ الْعَصْرِ تَحْدِيدًا قَدْ تَكُونُ الْأَسْبَابُ مُتَعَدِّدَةً وَ مُتَنَوِّعَةً مِنْهَا :

كَثْرَةُ التَّفْكِيرِ .التَخَمُّهِ .الْقَلَقُ .الْحُزْنُ .كَثْرَةُ شُرْبِ الْقَهْوَةِ وَ الْمُنَبِّهَاتِ لَيْلًاً .” وَ عِنْدَمَا حَاوَلْتُ أَنْ أَجِدَ حُلُولَ لِهَذِهِ الْمُشْكِلَةِ قَرَأْتُ كِتَابًا عَلَى مَا أَذْكُرُ كُتَبَ فِيهِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ :

“فَإِذَا كُنْتَ تَجِدُ مَشَقَّةً فِي الِاسْتِيقَاظِ مُبَكِّرًاً، عَلَيْكَ اتِّبَاعُ هَذِهِ الْخُطُوَاتِ:

اضْبِطْ السَّاعَةَ الْبَيُولُوجِيَّةَ لِجِسْمِكَ .

أُوقِفْ كُلُّ أَجْهِزَتِكَ قَبْلَ سَاعَةٍ مِنْ مَوْعِدِ النَّوْمِ .

ضَعُ الْمُنَبِّهَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ مُتَنَاوِلِ الْيَدِ” .

وَ هَا أَنَا مَا زِلْتُ أُحَاوِلُ وَ أَبْذُلُ قُصَارَى جُهْدِي لِتَطْبِيقِ مَا ذُكِرَ وَمَا زِلْتُ أَنُولُ شَرَفَ الْمُحَاوَلَةِ .

وَمَا زِلْتُ أَتَأَخَّرُ عَنْ عَمَلِي لِلْأَسَفِ .. وَمَا زِلْتُ أَيْضًاً أَرَى جَارِي فِي الْبِنَايَةِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الصَّبَاحِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْعُشْبِ وَ يُنْظَرُ إِلَى الْغُيُومِ . وَ عِنْدَمَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ وَ أَتَسَاءَلُ : مَا بِهِ ؟ يُجَاوِبُ بِطَرِيقَةٍ غَرِيبَةٍ جِدًّا وَ يَقُولُ :- ” مَاذَا قَالَ جَاكْ كِيرُوكْ :- وَصَلْتُ إِلَى مَرْحَلَةٍ فِي حَيَاتِي أَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الِانْعِزَالِ بِشِدَّةٍ ، وَ التَّوَقُّفِ تَمَامًا عَنْ التَّفْكِيرِ ، وَ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا يُسَمُّونَهُ ” الْحَيَاةَ ” . أُرِيدُ أَنْ أَسْتَلْقِيَ عَلَى الْعُشْبِ وَأَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْغُيُومِ وَ أَحْلُمَ فَقَطْ .”

غَادَرْتُ الْمَكَانَ بِصَمْتٍ وَأَنَا أَقُولُ : كَيْفَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ التَّفْكِيرِ ؟ عِنْدَمَا يَتَوَقَّفُ عَنْ التَّفْكِيرِ لَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ أَوْ بَلْ أَحْرَى لَيْسَ لِحَيَاتِهِ مَذَاقٌ .

التَّفْكِيرُ هُوَ أَنْ تَجْعَلَ عَقْلَكَ مَشْغُولًا بِشُئِّ مَا تُرِيدُ أَنْ تَقْدِمَ عَلَيْهِ ، وَهُنَاكَ تَفْكِيرٌ سَلْبِيٌّ وَإِيجَابِيٌّ ؛ وَالتَّفْكِيرُ السَّلْبِيُّ : أَنْ تَشْغَلَ بَالَكَ وَعَقْلَكَ بِالتَّفْكِيرِ بِشَيْءٍ غَيْرِ هَامٍّ ، فَتَتْعَبَ وَتَجِدُ نَفْسَكَ غَيْرَ مُرْتَاحٍ نَفْسِيًّا وَعَصَبِيًّا . وَالتَّفْكِيرُ الْإِيجَابِيُّ : هُوَ التَّفْكِيرُ بِحَلِّ مَشَاكِلِكَ الَّتِى تُقَابِلُكَ فَى حَيَاتِكَ أَوْ التَّفْكِيرُ بِعَمَلِكَ أَوْ بِشَيْءٍ مُهِمٍّ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ .وَالتَّفْكِيرُ هُوَ أَسَاسُ كُلِّ شَيْءٍ نَقُومُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ..

إِذَا غَيَّرْتَ طَرِيقَتُكَ فِي التَّفْكِيرِ فَرُبَّمَا لَنْ يَتَغَيَّرُ الْعَالَمُ كُلُّهُ . .

وَلَكِنَّ الَّذِي سَيَتَغَيَّرُ بِالتَّأْكِيدِ هُوَ عَالَمُكَ أَنْتَ ، التَّفْكِيرُ الْإِيجَابِيُّ سَيَجْعَلُكَ تَنْظُرُ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ.

وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَصَلْتُ إِلَى عَمَلِي بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَ لِلَّهِ الْحَمْدُ أَنِّي لَمْ أَتَأَخَّرْ ، رَأَيْتُ كَالْعَادَةِ زُمَلَائِي الْمُوَظَّفِينَ تَحْدِيدًا ” فُلَانٌ وَفُلَانٌ” يَتَشَاجَرُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى السَّبَبِ الْمُعْتَادِ ” أَلّا وَهُوَ : أَنَّ فُلَانٌ .. يَأْخُذُ إِجَازَاتٍ بِكَثْرَةٍ وَ الْآخَرُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْخُذَ مَرَّةً وَاحِدَةً ..

وَ السَّبَبُ وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ لِي ! الَّذِي يَأْخُذُ الْإِجَازَاتِ يَمْتَلِكُ التَّفْكِيرَ مَعَ لَمْسَةٍ مِنْ الْفِطْنَةِ وَ الدَّهَاءِ .

أَمَّا الْآخَرُ قَدْ يَكُونُ يُنْقِصُهُ الْأُسْلُوبُ فِي طَرْحِ الْفِكْرَةِ .

شَعَرْتُ أَنَّهُ مُسْتَاءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا الْوَضْعِ الَّذِي وُضِعَ بِهِ ،

فَأَخَذَ يَقُولُ:- لِمَاذَا هُوَ دَائِمًا يَحْصُلُ عَلَى جَمِيعِ الْإِجَازَاتِ وَأَنَا لَا ؟

فَقُلْتُ لَهُ :- أَفْضَلُ التَّفْكِيرِ يَكُونُ فِي الْعُزْلَةِ. أَسْوَأُهُ مَا يَكُونُ فِي الزِّحَامِ. ” تُومَاسْ ادِيسُونْ”

فَقَالَ لِي :- لَا ، أَنَا أَتَسَاءَلُ لِمَاذَا يُوَافِقُ لَهُ الْمُدِيرُ عَلَى أَخْذِ الْإِجَازَاتِ مَعَ أَنَّنِي أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ .

قُلْتُ لَهُ :- التَّرْكِيزُ هُوَ أَسَاسُ النَّجَاحِ فِي السِّيَاسَةِ ، فِي التِّجَارَةِ ، فِي الْعَمَلِ .. وَ فِي الْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَافَّةً.

فَقَالَ لِي :- أَتُرِيدُ أَنْ تَقُولَ أَنَّهُ يُحْسُنُ التَّصَرُّفُ أَكْثَرَ مِنِّي ؟

فَقُلْتُ فِي نَفْسِي جُمْلَةٌ كُنْتُ أَسْمَعُهَا كَثِيرًا فِي بَرْنَامَجِ ” الصَّدْمَةُ ” .. “هُنَا كَانَ لَازِمٌ نَتَدَخَّلُ ” .

أَدَرْتُ الْكُرْسِيَّ عَلَيْهِ وَ نَظَرْتُ إِلَى عَيْنَيْهِ بِعُمْقٍ ، وَ كَانَتْ نَبْرَةُ صَوْتِي فِيهَا حَدَّهُ ، وَ شَعَرْتُ أَنَّهُ شَعَرَ أَنَّنِي أَصْحَبْتُ مُسْتَاءً مِنْ عَدَمِ فَهْمِهِ وَقُلْتُ لَهُ :-

كَانَ هُنَآكَ رَاعِيَ قَائِدٍ فِي جَيْشِ الْمَلِكِ وَ كَانَالْقَاضِي يُبْغِضُ الرَّاعِيَ فَدَبَّرَ لَهُ مَكِيدَةً جَعَلَتْ الْمِلْكَ يَحْكُمُ عَلَى الرَّاعِي بِالْإِعْدَامِ بِالسَّيْفِ !!!!

ذَهَبَتْ أُمُّ الْفَقِيرِ إِلَى الْمَلْكِ تَلْتَمِسُ عَفْوَهُ فَاسْتَحْيَى الْمِلْكُ مِنْهَا لِأَنّ عُمْرَهَا جَاوَزَ الْمِئَةَ عَامَ !!!!

قَالَ لَهَا الْمِلْكُ :

سَأَجْعَلُ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ فِي وَرَقَتَيْنِ الْأُولَى يُعْدَمُ وَفِي الْوَرَقَةِ الثَّانِيَةِ لَايُعْدَمُ !!!!وَنَجْعَلُ ابْنَكَ يَخْتَارُ وَرَقَةً قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ ابْنُكَ مَظْلُومًاً نَجّاهُ اللَّهُ!!!!

خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ وَالْحُزْنُ يَعْتَرِيهَا؛ فَهِيَ تَعْلَمُ بِأَنّ الْقَاضِيَ يَكْرَهُ ابْنَهَا وَ عَلَى الْأَرْجَحِ أَنّهُ سَيَكْتُبُ فِي الْوَرَقَتَيْنِ يُعْدَمُ !!!!

قَالَ لَهَا ابْنُهَا:لَا تَقْلِقِي يَا أُمّاهُ!!!وَدُعِيَ الْأَمْرَ لِلَّهِ الْكَرِيمِ…

وَفِعْلًا قَامَ الْقَاضِي بِكِتَابَةِ كَلِمَةٍ يُعْدَمُ فِي الْوَرَقَتَيْنِ!!!

وَتَجْمّعُ الْمَلَأُ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لِيَرَوْا مَاذَا سَيُفْعَلُ بِالرَّاعِي ؟

وَلَمَّا جَاءَ الرَّاعِي فِي سَاحَةِ الْقِصَاصِ قَالَ لَهُ الْقَاضِي وَهُوَ يَبْتَسِمُ بِخُبَثٍ:

اخْتَرْ وَاحِدَةً!!!

إِبْتَسَمَ الرَّاعِي وَ اخْتَارَ وَرَقَةً؛ وَقَالَ :

إِخْتِرْتُ هَذِهِ !!!!

ثُمَّ قَامَ بِبَلْعِهَا دُونَ أَنْ يَقْرَأَهَا!!!

إِنْدَهِشَ الْوَالِي وَقَالَ : مَاصَنَعْتُ يَا رَاعِي!!!؟؟

لَقَدْ أَكِلَتَ الْوَرَقَةُ دُونَ أَنْ نَعْلَمَ مَابَهَا!!!!

قَالَ الرَّاعِي:

يَامَولَايَ اخْتَرْتُ وَرَقَةً وَأَكَلْتُهَا دُونَ أَنْ أَعْلَمَ مَا بِهَا وَ لِكَيْ نَعْلَمَ مَا بِهَا ، أَنْظُرُ لِلْوَرَقَةِ الْأُخْرَى فَهِيَ عَكْسُهَا !!!!

نَظَرَ الْمِلْكُ لِلْوَرَقَةِ الْبَاقِيَةِ فَكَانَتْ (يُعْدَمُ)!!!!

قَالَ الْحَاضِرُونَ :

لَقَدْ اخْتَارَ الرَّاعِي أَنْ لَا يُعْدَمَ!!!!

بِقَلِيلٍ مِنْ التَّفْكِيرِ نَسْتَطِيعُ صُنْعَ أَشْيَاءَ عَظِيمَةٍ !!!!

الْمُفَكِّرُ هُوَ صَانِعُ الْأَفْكَارِ ، الْأَفْكَارُ تُسَبِّبُ التَّفْكِيرَ ، التَّفْكِيرُ يُسَبِّبُ التَّرْكِيزَ ، التَّرْكِيزَ يُسَبِّبُ الْأَحَاسِيسَ ، وَ الْأَحَاسِيسُ تُسَبِّبُ السُّلُوكَ ، وَالسُّلُوكُ يُسَبِّبُ النَّتَائِجَ ، وَ النَّتَائِجَ تُحَدِّدُ وَاقِعَ حَيَاتِكَ ، فَلَوْ أَرَدْتَ فِعْلًا أَنْ تُحْدِثَ تَغْيِيرًا فِي حَيَاتِكَ غَيْرَ إِدْرَاكِ الْمُفَكِّرِ ” الدُّكْتُورِ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِّي ”

أَعْلَمُ جَيِّدًاً أَنَّكَ تَعَرَّضْتَ لِقِصَّةٍ فِي حَيَاتِكَ ، لِمَوْقِفٍ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَنْسَاهُ ، لِحَدِيثٍ لَنْ يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِكَ ، لَكِنْلَابُدَّ أَنْ يَأْتِيَ الْيَوْمُ الْجَمِيلُ، وَ تَنْسَى فِيهِ كُلُّ مَا سَلَفَ ..

ابْتَسِمْ فَقَطْ ، وَلَا تَمْضِ وَقْتَكَ فِي التَّفْكِيرِ .. فَلَوْ أَرَدْتَ فِعْلًا أَنْ تُحْدِثَ تَغْيِيرًا فِي حَيَاتِكَ غَيْرَ إِدْرَاكِ الْمُفَكِّرِ .

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة