هدم “مدرسة يرقا الثانوية للبنين”.. ذكريات وإرث يتهاوى أمام أعين السكان

ذكريات بدت وكأنها تتهاوى على مرأى من عيون أصحابها منذ أن بدأت آلات الهدم بدك حجارة مدرسة يرقا الثانوية للبنين التي عايشت أجيالا منذ ما يقارب السبعين عاماً، وكانت الحداثة والتجديد في مواجهة الإرث التعليمي الذي بُني من تبرعات أهالي القرية آنذاك.
قبل أيام، أقدمت وزارة التربية والتعليم على هدم مبنى يعد الأقدم والأثمن في بلدة يرقا في محافظة البلقاء، وهو مبنى مدرسة يرقا الثانوية للبنين، بدافع توسعة المدرسة وفتح صفوف أكثر لعدد أكبر من الطلبة الذين ازداد عددهم في هذا العام، غير أن الخطوة كانت “قاتلة”، كما يصفها البعض، إذ جار هذا الأمر على المبنى القديم للمدرسة الذي بُني في العام 1952 من تبرعات أهل القرية الذين كانوا حريصين على توفير مدرسة لأبنائهم لاستكمال تعلميهم دون الحاجة للتنقل إلى بقية المدن.
ومنذ ذلك الحين والمدرسة في كل عام تخرج أفواجاً من الطلبة ومنهم من وصل إلى أعلى المناصب والمراكز في الدولة، وكل من تخرج فيها ما يزال يحمل في ذكرياته الكثير من القصص المتعلقة بالعلمين القادمين من خارج القرية، الذين كانوا يقيمون في غرف صغيرة من بيوت أهل القرية، حتى تحولت العلاقة بين المدرسة والأهل إلى وحدة واحدة.
هدم المبنى أثار حفيظة الآلاف من الأشخاص من سكان البلدة وخريجي المدرسة، حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من المنشورات التي تطالب بوقف الهدم، والتلويح برفع قضية للمتسببين بذلك، إلا أن مديرية التربية في قصبة السلط، لم تأبه لتلك النداءات وتم الهدم المبدئي للمبنى في ساعات المساء ليتفاجأ أهل “يرقا” بـ”مسح المبنى عن بكرة أبيه خلال ساعات”.
آباء وأجداد وأحفاد، جميعهم درسوا في الصفوف ذاتها، وجميعهم لهم الذكرى والحنين ذاتهما، بل إن كثيرين منهم ذرف الدموع على هذا العمل الذي أكدوا أنه “جريمة بحق الإرث والذكريات”، خاصة وأن المدرسة تأتي في موقع يتوسط البلدة، وأصبحت معلما يمكن وصفه بـ”التراثي” لقدم المبنى وأهميته الاجتماعية والتعليمية والتراثية، ولكن بات الآن مكاناً فارغاً موحشاً بجانب المباني الجديدة.
هذا الأمر دفع الأمين العام للشؤون الإدارية والمالية في وزارة التربية والتعليم الدكتورة نجوى قبيلات، إلى زيارة المدرسة والوقوف على مطالب السكان فيها، الذين كانوا قبل ذلك قد تقدموا بطلب لوزارة السياحة بتحويل مبنى المدرسة إلى موقع تراثي للقرية، ولكن قوبل الطلب بالرفض من التربية آنذاك.
ورغم الهدم، إلا أن المواطنين طالبوا من المقاول إعادة بناء المدرسة، وبأن يحتفظ بالحجر القديم الذي كان يميز المبنى، من أجل إعادته مرة أخرى بعد الانتهاء من العمل، وهو ما حدث بالفعل، بعد أن كان الحجر القديم قد تم التخلص منه في أحد المكبات الترابية القريبة من البلدة، كما تم التنسيق بين المتابعين لعملية الهدم من أبناء البلدة لعمل “وقفة احتجاجية على أنقاض مدرسة يرقا الثانوية من قبل الأهالي ومحاسبة كل من كان له يد بهدم المدرسة”.
الكاتب الصحفي والناشط سهم السعايدة، كان ممن أثاروا قضية هدم المدرسة منذ اللحظة الأولى عبر مواقع السوشال ميديا؛ حيث تحدث عن تفاصيل الحدث، ويقول “مدرسة يرقا لها قصة بلدة بأكملها وأجيال متتالية، فمنذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي تم التبرع من قبل عبد الحليم النمر الحمود بقطعة أرض للبناء”، ومن ثم تم الاتفاق بين كبار البلدة لإنشاء مدرسة لتعليم أبنائهم، ومن ثم تم جمع التبرعات من الأهالي “دينار واحد فقط”، وقام خلال تلك الفترة بخدمة العمال وإطعامهم وتأمين وجبة الغداء لهم العديد من العائلات.
ومن المفارقات الجميلة لبناء المدرسة، أن كل شخص لم يستطع دفع الدينار في ذلك الوقت كان عليه أن يشارك من خلال مساعدة العمال في بناء المدرسة، كما قامت إحدى الأمهات “ببيع مفرش البيت أو البساط في سبيل التبرع بثمنه لصالح المدرسة”، والحجر الذي بنيت به المدرسة هو حجر نادر الوجود حاليا، وغالي الثمن جدا في الوقت الحالي، وكثير من المتنزهات والمطاعم الفخمة تبحث عن هذا الحجر لتزيين المباني به.
ويضيف السعايدة أن المدرسة كانت بدايتها عبارة عن صفين فقط، وغرفتين لا أكثر، ومن ثم تم الانتقال إلى مرحلة بناء الأسقف لها، ومنذ ذلك الحين وحتى سنوات قليلة، كانت دائما مدرسة يرقا الثانوية للبنين تخرج طلبة بأعلى المعدلات ومن أوائل المملكة أو محافظة البلقاء لعقود مضت.
وتحدث السعايدة باسم المئات من أبناء البلدة بأنه كان من الأولى الترميم بطريقة هندسية دون الحاجة إلى الهدم الكامل، والتخلص من مبنى حضاري تراثي، وذلك عن طريق ترميم السقف فقط دون هدم الجدران، كونها تمتاز بالقوة والمتانة بسبب الحجارة الصلبة التي بنيت منها.
وكانت “يرقا الثانوية للبنين” قد شهدت العديد من الأحداث المتعلقة بتاريخ الأردن، وشاهدة على وقائع كثيرة؛ حيث استعان بها الجيش إبان حرب 1967، كمستودعات وإغاثه سواء كان تجنيد الجيش بالأرزاق أو من خلال بعض حالات الاحتماء لسكان البلدة، حين تعرضت المنطقة للقصف “الإسرائيلي” في بلدتي عيرا ويرقا.
“كان الأمل من الجهات المعنية أن يتحول المبنى إلى متحف للبلدة ومكان تختزل فيه الذكريات والأحداث ووضع صور فيه لشخصيات أردنية من منطقتي عيرا ويرقا اللتين حظيتا باحتضان عشرات الأبناء من شهدائها في العديد من الأحداث”، كما يقول السعايدة، وأن تتحول لمحطة للمعرفة للأجيال بدلاً من هدمها، خاصة وأنها تقع في قلب البلدة وبجانب المدرسة الحديثة.
ويتساءل أهل البلدة “لماذا يتم إعدام تاريخ مهم للقرية من دون الرجوع إلى أهلها ومن دون أي مبررات مقنعة، واللجوء للقرار الأسهل لهم وهو الهدم؟”، وهي التي بنيت على أكتاف سكانها، الأمر الذي قد يؤجج القضية إلى حد “مقاضاة المسؤولين عن الهدم”.
ما حدث في قضية مدرسة يرقا الثانوية للبنين وتفاعل الجهات الرسمية مع الأحداث، دليل على مدى التفاعل المجتمعي مع القضايا العامة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأن الاستخدام الجيد لها يمكن أن يؤثر فعلاً على أرض الواقع وليس فقط في “الواقع الافتراضي”. ويشار إلى أن قبيلات تجاوبت مع مطالب أهل البلدة، وأوعزت بإرجاع حجارة المبنى القديم وترميم ما تبقى، والمباشرة فورا بإضافة تسع غرف صفية للمدرسة. ولحل مشكلة الاكتظاظ، تم تحويل المدرسة لفترتين صباحية ومسائية وتأسيس مصعد للمدرسة.

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة