أسطول الصمود يبحر.. وصوت الأحرار يهدر في وجه الطغيان // محمد متعب الفريحات

صرخة غزة لم تعد تختبئ بين الأخبار العاجلة، بل امتدت لتصل كل زاوية في العالم حيث يصدح نداء الضمائر الحرة. المدينة المحاصرة التي طالما عانت من الحصار والنار، أصبحت رمزا للمعركة الأخلاقية التي تجمع شعوبا لا يجمعها سوى رفض الظلم. الملايين اليوم في الساحات وعلى ضفاف البحار يعلنون أن الجرح الفلسطيني قضية إنسانية تمتحن بها ضمائر البشرية جمعاء.
المدى البحري أصبح مسرحا لمواجهة الطغيان بسلاح الضمير الحر والمشاعر الإنسانية، حيث يبحر أسطول الصمود محملا برسالة الحرية. لا يتحدى السفن الحربية بالسلاح بل بالفكرة التي تتجاوز الجغرافيا، فكرة أن الظلم لا يبقى إلى الأبد وأن صوت الشعوب أقوى من كل الحصار. هدير المحركات يختلط بزئير الضمائر التي تقف مع غزة، لتعلن أن البحر لم يعد صامتا وأن الأرض لن تقبل أكثر من هذا الانتهاك.
إسبانيا وضعت بصمتها في الصفوف الأمامية فأرسلت فرقاطة ترافق أسطول الحرية لتؤكد أن حماية المظلوم ليست مجرد سياسة بل التزام أخلاقي. الجماهير في الساحات هتفت بالأعلام فيما وقف رئيس الوزراء على منصة الضمير الحي ليؤكد أن القيادة ليست مجرد حسابات اقتصادية بل القدرة على دعم القيم الإنسانية حين تواجه خطر الانكسار.
إيطاليا شهدت موجة احتجاج شعبي هادرة خرجت من الميادين لتصل إلى العناوين. الجماهير رفعت صور غزة وصوتها في وجه مسؤولين مترددين لتعلن أن الشارع حين يتحرك لا تعود التبريرات صالحة. كل ساحة كانت شاهدة على أعلام فلسطين مختلطة بالهتافات التي تدين الاحتلال وتكشف ضعف السياسيين أمام نبض الجماهير. حتى الشوارع القديمة في روما بدت كأنها تستعيد ذاكرة مقاومات منسية.
برز أيضا موقف رئيس كولومبيا غوستافو بترو الذي تحولت كلماته إلى صرخة حرة اخترقت جدران الصمت الدولي. بترو لم يكتف بالإدانة اللفظية، بل لوح بفكرة تشكيل قوة عالمية تحت مظلة الأمم المتحدة تتقدم الصفوف لحماية غزة وفك حصارها. كان صوته حادا وصريحا، كأنه يتحدث باسم الضمير الإنساني كله، داعيا الشعوب والدول إلى تحمل مسؤولياتها أمام مشهد الإبادة. وفي خطابه بدت كولومبيا الصغيرة جغرافيا كبيرة بحجم موقفها، تضع نفسها في مواجهة الطغيان بلا خوف ولا مواربة، لتمنح القضية الفلسطينية بعدا جديدا يتجاوز حدود الشرق الأوسط نحو فضاء عالمي مفتوح.
المشهد العالمي لم يتوقف عند حدود أوروبا بل امتد إلى أمريكا الجنوبية وآسيا. في شوارعها خرجت الحشود تحمل صور الأطفال تحت الركام ولافتات الحرية، وفي الجامعات تحدث الأساتذة عن غزة كما لو كانت جزءا من تاريخهم القريب. كل صوت بلغات متعددة حمل رسالة واحدة أن الكرامة لا تتجزأ وحصار غزة حصار للإنسانية جمعاء. بدا المشهد كما لو أن الخريطة كلها أعادت رسم نفسها من جديد.
هذه الموجة أثبتت قدرة الشعوب على تجاوز الخداع مهما كانت أدواته. إعلام حاول لعقود تصوير الضحية كجلاد فقد هيمنته أمام صور الحقيقة المتدفقة من غزة. الجماهير حين تتحرك تعيد كتابة السردية وتكشف أن الدم المسفوك أقوى من أي حملة دعائية وأن الضمير المستيقظ لا يمكن أن يخدع. وكأن الحقيقة، مهما طال حبسها، تعرف دائما كيف تطرق أبواب العالم.
في بلدان أخرى حيث الصوت مكبوت والحرية محدودة يظل الصمت غطاء هش يخفي بركانا من الغضب. الناس قد لا يستطيعون النزول إلى الشوارع لكن أعينهم ترى وقلوبهم تعرف. السكوت لا يعني القبول بل تراكم الغضب وما يختزن في النفوس سيبقى شاهدا على أن الصمت المفروض ليس سوى هدنة مؤقتة مع الحقيقة.
وسط هذا كله تظهر إسرائيل بصورتها الحقيقية المنبوذة، الدولة التي لم تعد قادرة على إخفاء جرائمها اليومية وحصارها الطويل وجدرانها العنصرية. دعايتها لم تعد تقنع أحدا وخطابها لا يجد من يصدقه إلا قلة متواطئة. لقد أصبحت مرآة للخزي ورمزا للكذب ووصمة عار في ذاكرة القرن.
ما يجري اليوم ليس مجرد تضامن عاطفي عابر بل انتفاضة ضمير عالمي تعيد تعريف معنى الإنسانية في مواجهة الطغيان . غزة التي نزفت طويلا وجدت من يرفع صوتها ويبحر باسمها ويكسر جدار الحصار عنها ولو رمزيا . أساطيل الحرية صارت رمزا لوحدة البشر أمام الظلم . وبين صمت الحكومات وصراخ الشعوب يسجل التاريخ أن الضمير حين ينهض يكتب ملاحمه وأن الكرامة لا تموت مهما طال الليل ولا تدفن مهما أثقلها الركام .