أفلا يتدبرون..؟ آية وأمة/ علي راضي أبو زريق

آية من سورة آل عمران لها فعل السحر بين الناس. خصوصاً عندما تُتلى على السنة المنحازين لأنفسهم، أو تُفسَّر على مناهج المتأخرين من المفسرين.مع أن الآية أعظم قدراً مما ظنوا وأكبر فائدة لو فُهمت فهما سليماً. ففيها منهج للتغيير الاجتماعي ووصف لطريقة تطوير الناس نحو الأفضل. وهو أمر ما زلنا به عالة على الأمم.
أما الآية فهي قوله تعالى في سورة آل عمران « كنتم خير أمة أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.» وأما الأمة المخاطبة بالآية والمقصودة بقوله تعالى « كنتم خير أمة» فهي مناط الخلاف والاختلاف بين المفسرين. ولعل هذه المقالة تجلي معناها بعد أن تستعرض مراحل الابتعاد عن معنى الآية.
ولنبدأ من المرحلة الأخيرة التي استقر عليها الناس في فهم الآية. ولعل المفسر سيد قطب يعكس صورة صادقة لما استقر عليه رأي العامة في فهم الآية. كتب سيد في ظلال الآية: إن شطر الآية يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجباً ثقيلاً بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها.»كنتم خير أمة ..الخ الآية».إن التعبير بكلمة أُخرجت المبني لغير الفاعل تعبير يلفت النظر. وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تخرج هذه الأمة إخراجاً، وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله. إنها كلمة تصور حركة خفيفة المسرى لطيفة الدبيب، حركة تخرج على مسرح الوجود أمة ذات دور خاص ولها حساب خاص: « كنتم خير أمة أخرجت للناس». وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها. وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ولتكون لها القيادة بما أنها هي خير أمة.
ونكتفي بهذا القدر من النص الطويل الجميل لكن غير السليم الذي وضعه المرحوم سيد قطب تفسيراً للآية الكريمة. وهو كما نرى اعتبر المخاطب بالآية الأمة الإسلامية ما بقيت جماعة منها على الأرض. وهي كلها وعلى امتداد الزمان مخاطبة بهذه الآية التي تعطيها حق قيادة البشرية كما فهم سيد.
وقد أتعب المفسر نفسه وهو يحتال لتفسير كلمة «أُخرِجت للناس». وجاء بكلام جميل لكنه غير سليم. وسيتضح في نهاية المقال أن معنى الآية أبسط كثيراً وأقل تعقيداً مما ظن سيد.
ونعود قروناً إلى الوراء لنرى كيف سجل المفسرون الأوائل فهمهم لهذه الآية. ونبدأ بتفسير الطبري.لأنه كان محطة هامة في تاريخ التفسير؛ ونقل عنه معظم مفسري القرآن بعده. فماذا أورد بشأن خير أمة أُخرِجت للناس؟
وننقل عن الطبري بتصرف أمين اختصاراً وتجنباً لذكر اسم الجلالة خشية أن يصل إلى مكان غير لائق بجلال قدره. يقول الطبري: اختلف أهل التأويل في قوله «كنتم خير أمة أخرجت للناس» فقال بعضهم هم الذين هاجروا مع النبي (ص) من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب النبي (ص). وروى الطبري عن ابن عباس من عدة طرق أنه قال في «كنتم خير أمة أخرجت للناس» هم الذين خرجوا معه من مكة . وروى عن عمر أنه قال: «لو شاء  لقال أنتم خير أمة، فكنا كلنا ولكن قال كنتم في خاصة أصحاب النبي ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
إذاً لم يكن اللبس كبيراً في فهم الآية ولكن يلاحظ بداية عهد التمني لو أن الآية تشمل قدراً أكبر ممن أنزلت فيهم. واقتصرت الأمنية على الذين يعملون مثل عمل خاصة الصحابة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
وعلى الجانب الآخر من الأمة نجد العياشي المفسر الشيعي الذي توفي بعد الطبري بثلاثين سنة يسجل رأياً مختلفاً في معنى الأمة.يقول «كنتم خير أمة أخرجت للناس» : هم آل محمد .. وينسب للإمام علي أنه قال: «إنما أنزلت هذه على محمد.. في الأوصياء خاصة. فقال «كنتم خير أمة « هكذا والله نزل بها جبرائيل وما عنى بها إلا محمداً وأوصياءه (عليهم صلواته)
وفيما عدا العياشي فإن بقية مفسري القرآن الكريم من سنة وشيعة أعادوا ما ذكره الطبري. وأضاف كل منهم ما وصل إليه من أقوال منسوبة إلى النبي أو إلى الصحابة أو ما نقل إليه من أقوال علماء الأمة الذين سبقوه. وأدار بعضهم حواراً حول الآية مقارنا بينها وبين الآية التي تقول عن بني إسرائيل: «ولقد اخترناهم على علم على العالمين»(44 :32).وذلك لظنه أن بين الآيتين تناقضاً. فإما أن تكون عندهم الأفضلية لهؤلاء أو لأولئك. ومع تقدم الزمن كانت دائرة الآية تتسع لتشمل قدراً أكبر من أمة الإسلام حتى وصلنا مرحلتنا الحالية التي مثَّلها رأي سيد قطب أصدق تمثيل.
ولكنا سنعود إلى الوراء مرة أخرى فنتراجع مائة عام عن زمن الطبري.عندها سنجد الصنعاني المفسر الذي توفي عام 211ھ. وفي تفسيره للآية لم يورد سوى قول منسوب لابن عباس في الأمة المقصودة بالآية ، وهي قوله: هم الذين هاجروا مع محمد (ص).
وللأمانة فقد وردت الآية في ما نسب لمجاهد المفسر الذي توفي عام 104ھ. ولكنه لم يذكر شيئاً بشأن تعريف الأمة المقصودة . بل أورد تحت الآية جملة من أربع كلمات في تعليل الخيرية. وفي تفسير الثوري المتوفى 160 ھ لم يرد ذكر الآية.
وبذا يمكن القول بثقة إن المفسرين في القرنين الأول والثاني قد فهموا معنى الآية دون مبالغة. وتيقنوا أن المقصود بخير أمة هم الصحابة من المهاجرين، أو خاصة أصحاب النبي كما فهم عمر بن الخطاب. وأن الخلل في فهم الآية لم يكن كبيراً حتى أواخر القرن الهجري الرابع. ثم بدأت أماني الذين يتمنون أن تشملهم الآية بغير حق تتسرب إلى كتب التفسير كمعانٍ محتملة وليس كمعنىً وحيدٍ وأصيل . حتى جاء زمانناً الذي احتاج فيه الناس وَهْمِ انتصار فاصطنعوه بإفساد تفسير آيات من الكتاب العزيز ومنها آية خير أمة.
ولكن ما هو المعني الدقيق للآية وفق معاني المفردات واعتمادا على القرائن الموجودة في الآية؟
تخاطب الآية المهاجرين قائلة: لقد وجدكم الله أفضل الناس( في مكة) فأخرجكم منها إلى المدينة لتقودوا الناس من أهل المدينة. تأمرونهم بالمعروف وهو العمل الصالح النافع .وتنهون عن المنكر، وهو العمل الفاسد الضار بالفرد والمجتمع. ولو سَلَكَ بنوا إسرائيل الذي يجاورونكم بالمدينة سلوك المؤمنين المتمدنين لكان أنفع لهم في الدنيا وعند الله. ووصفت أناساً من اليهود بالإيمان . ووصفت غالبيتهم بالفسق .ووجود هذه الإشارة إلى بني إسرائيل في الآية دليل على أن المقصود بالناس عرب المدينة فقط الذين كانوا على بقية دين إبراهيم. ولو شملت كلمة الناس بني إسرائيل لما كان لزوم للإشارة إليهم وتسميتهم بالإسم .
وفي الآية من المعاني المفيدة ما هو أفضل للعرب، لو فهموه، من أمنيتهم أن تشملهم الآية جميعاً.فالآية تصف منهج السماء في تطوير أهل الأرض وتغييرهم نحو الأحسن. تقول الآية لقد وجد في العرب فئة متنورة بالإيمان وتستطيع أن تكون إماما لقومها.وهم أصحاب النبي الذين اتبعوه من أهل مكة. وتربوا على يديه بضع سنين.فصاروا أهلاً لقيادة قومهم. فأدارت الحكمة الإلهية الأمور بإخراجهم من مكة إلى المدينة. ليعيشوا في مجتمع يحبهم ويحترمهم إلى درجة الإقتداء بهم. وكانوا أهلاً لهذا الدور .فدلوا قومهم الأنصار على طرق الهدى آمرين بالمعروف. وحرروهم من شرور الجاهلية ناهين عن المنكر. وبهذا الترتيب الإلهي صُنِعت أمة على التقوى وخرج الناس من الظلمات إلى النور. وهكذا وضع سبحانه أمامنا منهجاً في الإصلاح والتغيير. يصلح لكل عملية تطوير اجتماعي بما فيها عمليات الإرشاد التي تستعملها الحكومات لرفع مستوى فئات من شعبها.

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة