أفلا يتدبرون..؟ التخوف

كثيراً ما استعملت، كغيري من الناس، كلمة التخوف ومشتقاتها بمعنى توقع الخوف أو الشك بوجود سبب للخوف. ولكن شيئاً ما جعلني اعيد النظر بالمعنى الشائع لهذه الكلمة.  كنت أطالع تفسير سورة النحل في تفسير سيد قطب المعروف باسم « في ظلال القرآن» ووصلت الآية السابعة والأربعين من السورة.  وهي الآية الوحيدة في القرآن التي وردت فيها كلمة التخوف حيث يقول تعالى: « أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم «(16: 47(.

وتأتي هذه الآية الكريمة بعد آيتين  تتحدثان عن طرق أخذ الله تعالى للأمم التي تصر على فعل السيئات. تقول الآيات: « أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين. أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم «(16: 45-47).

وكتب  سيد قطب في ظلال القرآن مفسراً الآيات الثلاث معاً حسب طريقته في الظلال: «.. ويعرض (القرآن) في ذلك لمصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم. ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون، وهم في تقلبهم في البلاد. أو وهم على توقع وتخوف وانتظار للعذاب «.

وبعد ذلك يكتب في ظلال الآية السابعة والأربعين وحدها: «أو يأخذهم على تخوف» فإن يقظتهم وتوقعهم لا يرد يد الله عنهم فهو قادر على أخذهم وهم متأهبون قدرته على أخذهم وهم لا يشعرون؟ ولكن الله رؤوف رحيم».

وشعرت حينها أن سيد أوقع التفسير في تناقض لا يليق بكتاب الله العظيم. فكيف يجوز أن يوصف سبحانه بالرؤوف الرحيم في معرض أخذه للناس وهم يتوقعون الأخذ الشديد؟ تصورت إنساناً يصوب مسدسه نحو رأسي وأنا متأكد أنه سيضغط على الزناد في لحظة آتية وكل ما في الأمر اني لا أعرف تلك اللحظة الحتمية وهو يؤجلها ليزيد في عذابي ثم يوصف بأنه رؤوف رحيم؟ لا بد أن في الأمر خطاً ما. والله سبحانه لا يجامل نفسه فلا يستطيع أحد أن يعاتبه لو كان التعقيب في نهاية الآية « والله شديد العقاب» أو «إن أخذه أليم شديد». ولهذين التعقيبين المفترضين أمثال في القرآن الكريم. وهما أليق بالمناسبة إذا كان التخوف بمعنى توقع العذاب وانتظاره كما فهم سيد قطب. ولكن سيد عالج التناقض الناشئ عن هذا الفهم بطريقة أخرى فغير اتجاه التعقيب عندما استنتج من عبارة «فإن ربكم لرؤوف رحيم» بأن الله تعالى لن يأخذهم بهذه الطريقة. فالغى مفعول الآية وكأنها لم تكن. وذلك عندما ختم الفقرة بصيغة الاستدراك مستعملاً كلمة لكن « ولكن الله رؤوف رحيم».أي أنه سبحانه لن يستعمل هذا التهديد. وبالتالي يكون التهديد بلا قيمة لو صح فهم سيد للآية.

صدمت لتفسير سيد وأدركت أن الخلل لا بد أن يكون في معنى « تخوف» وأنها لا يمكن أن تكون بمعنى توقع وانتظار ولا يمكن أن تكون من الخوف.

عدت إلى كتب التفسير القديمة فوجدتها  ثلاث مجموعات: مجموعة تقول كما قال سيد أي إنها من الخوف وتوقعه ومنهم أبو السعود والنسفي والألوسي.  والثانية تقول هي بمعنى التنقص أو النقص واختلفوا على معنى النقص كطريقة للعذاب ومنهم الصنعاني والثعالبي ومجاهد والواحدي والبغوي والجلالين. والمجموعة الثالثة احتارت بين المعنيين فوضعوهما كاحتمالين على تباعدهما. وهذا يعني أنهم لم يفهموا الآية على وجه اليقين. ومنهم السيوطي في الدر المنثور والشوكاني في فتح القدير والجوزي في زاد المسير.

فصرنا الآن بين مجموعتين الأولى التي اختار سيد قطب جانبها وهي التي أوقعت التفسير في تناقض بين الرحمة والرأفة من جهة وبين أخذ شديد القسوة من جهة أخرى. ولا يمكن أن يجتمع هذان في حادثة واحدة ومن زاوية نفس القوم الذين يقع عليهم الفعل.

وعلى كل حال فإن فهم التخوف على أنه من الخوف يخالف منطق اللغة. فإذا ظن أحد أن التخوف درجة خفيفة من الخوف فهذا غير صحيح لأن أدنى درجة من الخوف تسمى خوفاً، وإن ورد  التخوف بهذا المعنى في بعض معاجم اللغة.

والمجموعة الثانية التي لم تحدد موقفها فجعلت للتفسير وجهين. ومع أن العقل العربي اعتاد هذا الأسلوب في التفكير واستساغه مع الزمن. إلا أن الاستسلام له يفقد القرآن روح الرسالة. فإن كنا نؤمن أن القرآن رسالة  فيلزم أن يكون للآية معنى واحدأً لتصل إلى العقل فيتمثلها أو ينفذها. وليس عيباً أن لا ندرك معنى آية من القرآن الكريم المعجز.  ومن حقنا أن نحتار بين معنيين على أن نبرز حيرتنا تلك إلى أن نجد طريقة في التفكير نتبين فيها وجه الصواب. فقد يكون في هذا حافز للعقل على الإبداع لمواجهة تحدي غموض آية من كتاب الله.

ويبقى التأكد من رأي المجموعة الثالثة وهو تفسير  التخوف بأنه النقص أو التنقص واختبار انسجام كل أجزاء الآية عند الأخذ بهذا المعنى.

وتذكرت نصيحة عمر بن الخطاب التي يقول فيها «احفظوا ديوان شعركم ففيه تفسير كتابكم» فعدت  إلى الشعر الجاهلي لأجد بيتاً من الشعر يحل المشكلة وهو يستعمل كلمة التخوف بوضوح لا لبس فيه :

تَخَوَّفَ السَّيرُ منها تامكاً قَرِداً         كما تخوّفَ عودَ النبعةِ السَّفِنُ

والبيت منسوب لأكثر من شاعر جاهلي ومن المنسوب إليهم ذو الرمة وابن مقبل.

ومعنى البيت أن السفر الطويل أذاب سنام الناقة أو تامكها  كما يأخذ السَّفَن من عود النبعة الذي يعالَج ليصير قوساً أو رمحاً. والسفن حديدة يهذب بها العود الذي سيتحول إلى قوس أو رمح بإزالة نتوءاته أو اعوجاجه تدريجياً. ونتيجة معالجته البطيئة للعود تشبه  الهزال التدريجي الذي يصيب الناقة نتيجة السفر. فلا  يلاحظ إلا بعد مدة من بدايته. وبذا يصير مفهوماً معنى قوله تعالى» أو ياخذهم على تخوف». أي يأخذهم تدريجياً بتنقص عددهم رويداً رويداً. وربما كانت طريقة تناقص بعض الشعوب الغربية هذا الزمن هي الحالة النموذجية للتخوف. ومع هذا النوع من العذاب يناسب ان يكون التعقيب « إن ربكم لرؤوف رحيم». فهو سبحانه لا يأخذهم بقسوة وعنف مرة واحدة بكارثة طبيعية كما فعل مع عاد وثمود مثلاً. بل يعاقبهم على سيئاتهم بما يقابلها. وهو  تنقص  عددهم الذي لا يعاني منه إلا قياداتهم الفكرية والسياسية. وعلى هؤلاء  تقع  مسؤولية زجر قومهم عن فعل السيئات. وقد ينتبهون إلى ذلك فيعودون عما هم فيه. فتكون هذه فرصة للأقوام التي استحقت هذا النوع من العقاب. ويكون هذا العقاب ،حسب فهمي لقوانين الله تعالى،للأمم التي تميل للاستمتاع المادي ولكن لا يظلم بعضها بعضاً ولا يغلب قويها ضعيفها. وبهذا الفهم تنسجم أجزاء الآية بعضها مع بعض ويزول التناقض الناتج عن الخطأ في فهمها أو فهم كلمة منها.

 

علي راضي أبو زريق/ الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة