أفلا يتدبرون..؟ المدّثّر/ علي راضي أبو زريق

هي السُّورة الرابعة والسبعون حسب ترتيب المصحف. تدعو الرسول لخلع دثاره ومغادرة فراشه والصدع بما أمره الله به. وفي السُّورة آياتٌ لاحقةٌ نزلت بعد أن صدع النبيّ بالأمر فتصدى له أصحاب العقول والدثور. وتروي السُّورة قصة رجلٍ من أكثرهم مالاً وولداً، ولديه علمٌ بأصول الكلام وتصريف القول. فكأنه بدنياه وبتمثيله لقوى الكفر يقابل النبيّ كرسولٍ لله وداعيةٍ لقومه إلى الإيمان بالله. فيعد الله نبيه أن يتكفل بأمره. ليتفرغ النبيّ لدعوته ويفرغَ قلبه من الحزن لينشغل بذكر ربّه. فهي سورة المدّثّر المدعو لمواجهة أصحاب الدثور.
عنوان السُّورة وموضوعها:
عنوانها المدّثّر. وقد وردت الكلمة في الآية الأولى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. ويجمع المفسرون على أنها استعملت بمعنى المتلفف بثيابه. والدِّثار هو ما كان فوق الملابس الداخلية الملاصقة للجسد التي تسمى الشّعار.
ولكن للدثر معانٍ أخرى تؤشر على موضوع السُّورة أو فقراتها. ولعلها تصف أسلوبها.
جاء في المقاييس للرازي:»الدال والثَّاء والراء أصل واحد مُنقاس مُطَّرِد، وهو تضاعُف شيء وتناضده بعضه على بعض. فالدَّثْر المال الكثير، والدَّثار ما تدثر به الإنسان وهو فوق الشعار، ومن الباب تدثر الرجل فرسه إذا وثب عليه فركبه»
وفي لسان العرب لابن منظور:»الدَّثر بالفتح المال الكثير،.. وقيل هو الكثير من كلّ شيء؛(ومنه ما قيل للنبيّ) ذهب أهل الدثور بالأجور».
والسُّورة التي تبدأ بالمدّثّر صفةً لرسول الله لأنه تلفف بثيابه رهبةً بعد لقاء جبريل، تأمره أن يستعد ويقوم ويمارس دعوته كما الفارسُ الذي يتدثر فرسه.
وفي السُّورة قصّة الرجل صاحب الدَّثر من المال. والذي دثّر كلامه عن القرآن منضداً إياه صفةً فوق صفةٍ ومتطوراً به حالاً بعد حالٍ ليتمكن من الطعن بالقرآن بطريقةٍ تبدو مقنعةً. والسُّورة بصياغتها متدثّرةٌ بترتيبٍ أقرب للتنضيد . كلّ فقرةٍ منها لوحةٌ منضدةٌ متدرجةٌ طبقةً فوق طبقةٍ. فانطبق اسمها على موضوعها وعلى ترتيب آياتها.
تحليل السُّورة على ضوء عنوانها:
بنداءٍ للرسول وتكليفٍ تبدأ السُّورة. وبيا أيها المدّثّر ليستحي من الله وينطلق من رهبته: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَربّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِربّكَ فَاصْبِرْ}
وهكذا تتطور الآيات مع النبيّ منذ يخلع دثاره وينطلق بدعوته حتى يضطر للصبر على أذى قومه. ومقابل دعوته للصبر تعده أن عذاباً شديداً ينتظر من يكفر به وبدعوته{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ *عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
صاحب الدثور: تُجمع الروايات أن المقصود بها الوليد بن المغيرة المخزومي. فهو الذي انتدبته قريشٌ ليقول شيئاً في القرآن ليصدَّ الناس عنه. وذلك لعلمه بأساليب الكلام. وكان نصيبه ست عشرة آيةً  مخصصةً له لم يشاركه فيها بشرٌ. وتذكر دثوره وبنيه ونِعَم الله عليه التي لم يقدرها. خلقه الله  وحيداً لا مال له، ثم رزقه وجعل له دثراً وذريةً ظاهرةً: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كلّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.
وتأتي الآيات بنظامٍ منضدٍ مرتبٍ درجةً درجةً بما يتفق مع مادة «دثر». ولأن الله رفعه درجةً درجةً ومهّد له تمهيداً فقد جاء عذابه صاعداً شدةً بعد شدةٍ { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}. ثم ينتقل إلى فعلته مع القرآن والتي صدرت عنه بنظامٍ وتدريجٍ ليصل منها أن القرآن سحرٌ يؤثر!!
ونظام لجهنم: تنتقل الآيات من جزاء الوليد بن المغيرة إلى وصف مستقَرِّه ومستقر كلّ كافرٍ وهي جهنّم. فتُعَرِّفها انطلاقاً من مفعولها الشديد وحراسها من الملائكة: {  وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ ربّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}
ويأتي عدد الملائكة ليثير سخرية المشركين، فيصدَّ عن الإيمان من لا يستحقّه. وعندما يُقال هذا للنبيِّ الحريص على القيام بواجبه؛ فإنما هو لتخليصه من الحزن إذا لم يرض عن نتائج جهده. وليعلم أن الله يهدي من يستحقّ. وههو سبحانه يتعمد صرف أناسٍ عن الإيمان بما اكتسبوا. فالمؤمنون الأوائل طليعة الأمة يجب أن يكونوا على خُلقٍ عظيمٍ وقلبٍ سليمٍ ليكونوا قاعدةَ الأمة لأجيالٍ قادمةٍ.
النار نذيرٌ وهدايةٌ لمن يستحقّ: بمنظومةٍ كونيةٍ جديدةٍ تتحدث الفقرة التالية عن النار كوسيلةٍ لاسترداد من يستحقّ الهدى:{كلّاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
وكعادة القرآن غالباً ما توظف الآية الأخيرة من الفقرة في فقرتين السابقة واللاحقة. فالهدى والضلال يكون بناءً على ماضي الإنسان أو كما قالت الآية بنصها الجميل الآسر{كلّ نفسٍ بما كسبت رهينةٌ}. ثم يمكن أن تكون قاعدةً للفقرة اللاحقة ليستثنى بها الصالحون.
أسباب دخول النار: نعلم أسباب دخول أهل النار إلى النار بأسلوبٍ رشيقٍ وعرضٍ منضدٍ يتفق مع عنوان السُّورة ولكن من خلال سؤال أصحاب اليمين لهم{ كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}
بمقابلةٍ معجزةٍ نشاهد الفرق بين أصحاب اليمين في جنات يتساءلون وبين المجرمين مسلوقين في سقر. ثم يعترفون بذنوبهم بأسلوبٍ واعظٍ. فمن فعل مثل ذنوبهم سعى لمثل مصيرهم. وله أن يختار. وبإمكانه تجنب ذلك المصير قبل فوات الأوان وقبل أن لا تنفع شفاعة الشافعين.
نداءٌ أخيرٌ لعلهم يرجعون: وانطلاقاً من نهاية الفقرة السابقة تبدأالفقرة التالية وبعد التذكير أن لا شفاعة بعد الموت تتساءل الآيات على مسمع من الرسول {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كلّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كلّاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كلّاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}
كانت بداية السُّورة تحريضاُ للنبيِّ للخروج من دثاره والانطلاق بدعوته، وواصلت تشجيعها للنبيّ ليواصل عمله الجادّ كالفارس؛والله يتولى عنه أعداءه. وفي النهاية دعوةٌ لمن كسبوا خيراً ولأهل التقوى أن يسرعوا بالالتحاق بالركب مع النبيّ والمؤمنين معه.

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة