أفلا يتدبرون..؟ يا أيها الناس

من أخطر الكلمات القرآنية التي خرجت عن حدود معناها كلمة «الناس». ومقابل كثرة استعمالها في الحياة اليومية فقد وردت في القرآن أكثر من مائتي مرة. واستعملت في القرآن بعدة معان لكن بحجمها الصحيح دون مبالغة. وبالمقابل لم تقدمها المعاجم العربية بالدقة اللازمة لحسم أمر معانيها، ربما بسبب وضوحها في القرون الأولى.وهذه المقالة محاولة لفهمها كما كانت تستعمل في الشعر الجاهلي وكما استعملها القرآن الكريم.
ويظن المعاصرون أنهم يعرفون معناها. ولكن عند فحص الأمر بدقة يتبين أن مسافة ما تفصل بين المعنى الحقيقي لهذه الكلمة وبين المعنى الذي يظنه الناس.
فالمعاصرون من العلماء والعامة يظنون أنها تعني الجنس البشري كله. وانعكس الفهم الخاطئ على تفسير القرآن ووقع مفسرون باخطاء خطيرة بسبب عدم فهمهم للمعنى الدقيق للكلمة. ولكن مِنَ المفسرين القدامى مَن كان يفسرها حسب موقعها في السورة معتبراً أسباب نزول الآية التي وردت فيها. فالنسفي مثلاً كتب مبيناً المقصود بكلمة الناس الواردة في البقرة:21 (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) قال «: ما في القرآن يا أيها الناس فهو خطاب لأهل مكة.. وهذا خطاب لأهل مكة «. وتفسير الجلالين الذي تحرى واضعاه الدقة إلى حد كبير حدد المعنى المقصود بكلمة الناس كلما وردت. فكانت مرات بمعنى أهل مكة ومرة بمعنى جمع من أهل مصر(طه:59) وأخرى قصد بها إحدى قبائل اليهود ( الفتح:20).
في الشعر الجاهلي يتبين أن كلمة الناس كي تنطبق على جماعة بشرية يجب أن يتحقق لها شرطان: الإقامة معاً أي في حيز مكاني كحي أو قرية أو مدينة أو مساحة معروفة لهم من البادية. والشرط الثاني اجتماعهم على لغة يستطيعون التواصل بها والتعامل وشيء مشترك خاص بهم يميزهم. فشخص ليس من حيي ولا أستطيع التعامل معه أو التواصل معه بلغتي الأصلية لا يكون من ناسي. لذلك يلاحظ أحيانا استعمال كلمة ناس متبوعة بضمير المخاطب أو المتحدث أو الغائب. فنقول هؤلاء ناسي أو ناسه او ناسك أو ناسهم. فلو كانت تعني الجنس البشري لما جاز هذا الاستعمال بأي لغة. فهي تقابل كلمتي People الإنجليزية.التي عرفتها ملكة بريطانية بأنها شعب واحد ولغة واحدة ولسان واحد.وهذا ما على كلمة «ناس» العربية».
وفي المعاجم العربية: جاء في لسان العرب «الناس مذكر وقد يؤنث على معنى القبيلة أو الطائفة. وفي قوله تعالى (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم) الناس هنا أهل مكة «.
ولم يكن استعمال الشعراء مختلفا، بل سجلوا بشعرهم صورة ناصعة واضحة لمعنى كلمة الناس. قال الحطيئة: أكُلُّ الناس تكتم حبَ هند وما تُخفِي بذلك من خَفِيّ؟
فالناس هنا شباب الحي الذين يمكن أن يقعوا بحب هند لأنهم يرونها ويعرفون خصالها.
وعند طرفة بن العبد البكري نجد الناس أقل عدداً إذ يقول:
حين قال الناس في مجلسهم أقَتَارُ ذاك أم ريح قُطُر؟
فالناس هنا هم حاضروا المجلس دون سواهم.
وفي استعمال زهير للكلمة علامة مرجعية تحدد شروط استعمال الكلمة فهو يقول في معلقته:
لِحَيٍّ حِلال يعصمُ الناسَ أمرُهم إذا طرقتْ إحدى الليالي بمعظَمِ.
فالحي الحِلال أي الكثير الناس يحمي ناسَه إذا طرقهم أمر عظيم بليلة ما. فالحي هو نفس الناس.
وفي قصيدة أخرى لزهير يستعملها بنفس المعنى وبوضوح لا لبس فيه يقول :
تَعَلَّمْ أنَّ شَرَّ الناسِ حَيٌّ ينادى في شِعارِهم يسارُ.
فشر الناس حي عند زهير. فالناس هنا حي من أحياء العرب. وهذا الاستعمال لكلمة حي بمعنى ناس ما زال مستعملا في مدن بلاد الشام وربما في سواها.
فهي في الشعر الجاهلي تعني مجموعة الأشخاص الذين يعيش المتحدث معهم من حيه أو من أهل قبيلته. وهي لا تزيد في معناها الأصلي عن أهل القبيلة أو أهل المدينة الواحدة.
ويتسع مداها في القرآن لتشمل أهل اللسان الواحد شعبا واحدا كانوا أو شعوباً تتكلم نفس اللغة كالعرب. ولكن لا يمكن لها أن تتسع للجنس البشري كله. فقد رأيناها تستعمل في القرآن بحق قوم معروفين أرسل إليهم أنبياء لا يشك في قومية رسالاتهم كموسى وإبراهيم
وكان المقصود بها المخاطب المباشر بالتنزيل أحياناً ( ياأيها الناس) أي من يسمع الخطاب من أهل لغة الخطاب. ولمزيد من الوضوح نقوم هنا بمحاولة فهم معناها الدقيق كما وردت في القرآن الكريم. ونلجأ لمقارنة النصوص واستعمال الوقائع المؤكدة التي تبينها الكلمة. ففي القرآن آيات وردت فيها كلمة الناس بمعنى واضح لا يقبل اللبس. فمثلاً يتفق علماء الإسلام وعلماء اليهودية دون أدنى درجة من الخلاف على أن اليهودية دين عرقي أنزل لبني إسرائيل دون سواهم من البشر. ولا يؤثر في هذه الحقيقة اعتناق أناس من غير بني إسرائيل الدين اليهودي. ومع هذه الحقيقة التي لا جدال حولها نقرأ في القرآن آيات تقول إن كتاب موسى كان هدى للناس. فمن المقصود بالناس في مثل هذه الآيات غير بني إسرائيل؟ ومن هذه الآيات ما جاء في سورة القصص (43) « ولقد آتينا موسى الكتاب، من بعد ما أهلكنا القرون الأولى، بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون». فالناس الذين أنزلت التوراة لهدايتهم هم بنو إسرائيل دون سواهم من الخلق. ومثلها ما جاء في سورة الأنعام (91)» قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس «. وفي الآيتين السابقتين أطلقت كلمة الناس على بني إسرائيل وليس على الجنس البشري كله.
كما استعملت الكلمة مع داود بمعنى بني إسرائيل وذلك في سورة ص :26 يقول سبحانه «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق..» وداود لم يحكم إلا بني إسرائيل وفي منطقة جغرافية محدودة متصلة. فلا مجال لاعتبارها في هذه الآيات الأربع بمعنى الجنس البشري كما يظن أهل هذا الزمان إلا إذا اعتبرنا اليهودية ديناً عالميا، وأن داود أقام دولة عالمية حكمت البشر جميعاً. وهو ما لم يزعم به أحد.
ونقرأ في المائدة:110 {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا..} ونعلم علم اليقين أن مريم وعيسى عند ولادته لم يقابلا إلا أناسا من بني إسرائيل وهم الذين سمتهم الآية الناس. وقد كلمهم فهم أهل لغته واللغة الواحدة هي الضابط الأقوى لكلمة الناس.
ومثل موسى مع بني إسرائيل كان إبراهيم رسولاً بالحنيفية الى العرب. لم يزعم أحد أن الحنيفية دين عالمي. ومع هذا قيل لإبراهيم كما ذكر القرآن (22: 27) « وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق «. فالناس هنا هم العرب. فعليهم أنزلت الحنيفية ولهم وحدهم كان نداء إبراهيم المذكور في هذه الآية. وهم الناس هنا دون سائر الخلق. فلم يُوجه نداء إبراهيم بالحج إلى الكعبة إلى أحد من الخَلق غير العرب الأحناف.
وعن المؤمنين من أهل المدينة يقول تعالى في آل عمران « الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل « (3: 173). ولو كانت الناس هنا بمعنى ذرية آدم أجمعين لما استقام معنى الآية. فالمخاطبون ناس. والذين خاطبوهم وُصِفوا بأنهم الناس مُعَرَّفة؛ وكذلك الذين جمعوا لهم لقتالهم وُصِفوا بأنهم الناس مسبوقةً بال التعريف. فالآية لا تترك مجالاً للشك أن كلمة الناس تُطلَقُ لِيُقصدَ بها فئة محدودة من البشر.

علي راضي أبو زريق/ الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة