الأغاني الشعبية بين الإزاحة والإحلال/د.منصور محمد الهزايمة

=

شأن بقية الأمم في كل أرجاء المعمورة، تعاورت على الأمة العربية الكثير من الأحداث العظيمة والتغيرات الجسيمة مما لا يمكن حصره، بعضها كان ضمن مسار التحول الطبيعي، وبعضها الأخر بسبب تفاعل الإنسان في الزمان والمكان، وجاء بعضها بسبب التعاون أو التنافس مع الغير، أو ممّا صاحب الحياة من تقدم تقنيّ، وعلى الرغم من شيوع مفهوم العالمية والقرية الكونية، إلاّ أنه كان هناك دائماً ما يشبه الصراع بين ثقافة محلية تتشبث بخصوصيتها، وأخرى عالمية تسعى لفرض هيمنتها.
بكلماتٍ بسيطة من مؤلف لم يُعرف، تحسّها الشعوب، ولحن رشيق، وإيقاع موسيقي جميل، تتميز الأغاني الشعبية بتنوعها، وعمق معانيها، مما يجعل منها جانبا تراثيا ثريا، يستحق المحافظة عليه بشتى السبل، لتبني جسرا حضاريا يصل بين الأجيال.
تعتبر الأغنية الشعبية ركنا أساسيا في الأدب أو الثقافة الشعبية، التي تعبر عن أصالة وقيم وعادات شعب ما، وتقبع في وجدان ذلك الشعب، كما أنها تعكس فلسفة تلك المجتمعات الصغيرة والبدائية في كل جانب من جوانب عيشها، فمن أغاني العمل إلى أغاني الفرح إلى الحزن إلى الحمل إلى الختان إلى الفطام إلى الحج إلى التجنيد إلى المطر “أم الغيث” إلى هدهدة الطفل وتنويمه كانت تمثل دائما صدق مشاعر جمعية، وأحيانا التحايل عليها، بحيث تعكس المقابلة، ففي أغاني العمل -مثالا- كان بعضها يعبر عن الحماسة، ويستنهض العزيمة لإتمام العمل، والأخر يصور المشقة وحالة التعب، ومثل ذلك المقابلة بين الحمل بالصبي الذي يستوجب الفخر، مقابل الحمل بالبنت الذي يستوجب المواساة، لكن أحيانا قد يبرز صوت تمرد على الصوت السائد والعادات الغالبة -يأتي مثاله- ويطغى على هذه الأغاني طابعٌ نسويّ، من غير المروءة أن يؤديها الرجال، لكنّ أغاني العمل تحديدا قد تكون ذكورية أو تشاركية.
وحيث أن المقام لا يتسع لتمثيل جميع أشكال الأغنية التي ذكرتها آنفا، إلاّ أنه يمكن التمثيل لبعض صورها، فمن أغاني الأعراس ما تُوّصى به العروس: يا بنت وإن سايلوا وقالوا مين أهلك قولي وأنا بنت العنصر العالي
يا بنت لا تكوني بطفل الدار نهّاره ولا تردي على بعلك الأقـــوال
فالأغنية توصي العروس بالتفاخر بربعها، مما يوجب تقديم الهدايا والمظاهر العينية التي ترفع من شأن الزوجة، وأسرتها، وإبراز الزواج بمظاهر مادية لائقة، لكن عليها بعد زواجها أن تقصر لسانها.
وفي أغنية أخرى تتعجل العروس إنهاء إجراءات الزواج للانتقال من بيت الأسرة إلى بيت الزوج:
يا ليلة الحنا متى تكملي واشلح ثويب امي وابوي واخوتي
وفي ليلة الزفاف تُمتدح العروس، ولكن بشكل مهاهاة:
ارفعي رأسك يا مرفوعة الراس
لا فيكي عيب ولا ما قالت الناس
وربما كانت أغاني العرس هي الأكثر رواجا، وسماعا، لأنها تؤدى بطقوس احتفالية جماعية تشبه المهرجان الشعبي، ويمر بمراحل لكل منها طابعه؛ من ليلة الحنّاء إلى ليلة الزفة إلى الفاردة، بل ويثير الاهتمام أن كلمات بعض هذه الأغاني تخرج عن العرف، ربما لشعبوية هذه الطقوس التي يجتاحها شيء من الحرية لبعض الوقت.
ومن الأغاني الشعبية تلك التي تميز بين خلفة البنيّة وخلفة الصبي من قبيل:
يومن قالوا لي بنية صكت الحمى عليـــــــــّه
جابوا لي هالرحية وقالوا اطحني يا ام البنية
لما قالولي ولد انشد ضهري وانسند
ولما قالولي ابنية انطبقت الدار عليـّــه
بل إن التمييز يبدأ من مرحلة الحمل:
يا حاملة الصبيان يا حاملة الصوان
يا حاملة عيــشة يا حاملة خيــشة
وهنا مواساة للحامل ليس في ثقل الحمل، بل تتضمن الغمز المبطن بجنس المحمول.
لكنّ صوتا يخرج عن المألوف، ويعاكس السائد فيصدح:
لما قالولي بنــيـــة قلت يا لــيلة هنـــية
تكنس وتفرش ليه وتملا لي البيت ميه
وهو صوت يتحدى بتفضيل البنية على الصبي ويذكر بعض مزايا ذلك التفضيل.
وعند الختان تخاطب المطهر:
طهره يا مطهر وناولـــــه لامـــــه
يا دمعته هالغالية حدرت على كمــه
طهره يا مطهر وناولــــه لاختــــه
يا دمعته هالغالية حدرت على تختــه
أمّا من أغاني الحزن وفقدان العضيد فيقال:
يا شيخنا ياللي عليك المعتمد خليتنا مثل البيوت بلا عمد
يا شيخنا ياللي عليك الهيبة خليتنا مثل الولايا السيبـــة
وهذا يجسد السائد من أن المرأة لا بد أن تعيش في كنف الرجل، وعند موته ينهار كل شيء من حولها.
ومن أغاني العمل ما يكون على شكل حوار جميل مثل ما يتم بين الحصادين ومعلمهم:
يا معلم لا تخــاف حصيدة على بو نظاف
والنبــي صلوا عليه ألف صلاة علـــيـه
يا معلم حلــــــــــنا لنقب كلـــــنا
إن قبـــيتوا كلــــكوا العصاة بتلمـكوا
لكنّا اليوم نفتقد إلى سماع معظم هذا الغناء في مناسباته وساحاته، ونحنّ اليه في أفراحنا وشتى مناسباتنا، ولهذا العديد من الأسباب، فتغير أسلوب الحياة الناتج أصلا عن تطور طبيعي، وتقنيّ، نتج عنه اختلاف طبيعة العمل في معظم المهن، واختلاف أدواتها، فكسدت أغانيها، كما تبدلت مظاهر العرس وإجراءاته، بل أن التمييز بين الصبي والبنت أصبح معيبا، مثلما أن رحلة الحج لم تعد شاقة وطويلة، وما عاد الفطام والختان يثيران القلق، نظرا لما طال أدواتهما من تطور، ومثله لشتى المناسبات، فمكننة الكثير من أدوات العمل والإنتاج والاتصال قد غيّر الكثير من واقع الحياة، والتفاعل معها.
لكن ما مصير هذا التراث الشعبي بشتى ألوانه الزاهية الذي رسخ في وجدان أجيال متعاقبة؟
إن التطور والتقدم الذي أصاب شتى صور الحياة، فرض نفسه في إعادة تشكيل الثقافة، والنظرة إلى مجمل الحياة من حولنا، فكانت أولى المراحل انتقال الشفوي إلى الكتابي، وبظهور المذياع والتلفاز أصبحت هذه الأغاني تُكتب ثم تسجل وتذاع منهما، لكن أيضا بتدخلٍ في الكلمة واللحن، وإدخال أدوات موسيقية جديدة، بما يخدم أحيانا أهدافا شعبوية، قد يراد لها أن تمالىء السلطة.
ما تغير بهذا الجانب الهام من تراثنا الشعبي، ربما كان محكوما بمتغيرات اجتماعية اقتصادية، فرضت نفسها، وبالتالي كان ما حدث هو استجابة لها، أو مجادلة معها، لكن تبقى مسئولية المثقفين الوطنيين شعبيين كانوا أم رسميين قائمة في المحافظة عليها؛ كلمةً ولحناً وايقاعاً، شفاهةً وكتابةً وتسجيلا، تكاد ترقى لأن تكون أمانةً في أعناقهم.
الدوحة – قطر

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة