الأمثال الشعبية: القدرية مقابل الثورية!/ د. منصور محمد الهزايمة

=

متخففا من حمولة الزائد من الكلمات، ومن كل القيود والرتوش في المفردات، ومتغاضيا عن المحسنات البديعية، يذهب المثل الشعبي مباشرةً إلى مراده، متجاوزا الشرح والتفصيل، ومختصرا ما يرمي إليه، ليصور حالة اجتماعية اقتصادية تعكس أسلوب حياة، وثقافة شعبوية، تجسدها وحدة الزمان والمكان، وتمثل حالة عامة تعكس مكنونا ينبئ عن اتجاهات الناس في التعبير عن قيمهم، وعاداتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية البينية، وعلاقتهم بالسلطة التي يمثلها أهل الحكم من عسكر ودرك وجباة ضريبة.
بكلمات قليلة مركزّة سهلة الحفظ والتعبير، تتداولها الألسن، تقوم بنية المثل على تمجيد حكمة شعبية، أو تجربة حياة مختزلة، وموروث يتفرع في القيم والعادات والتقاليد من مأكل ومشرب وعمل ولباس وفرح وترح، بل والنظرة لمجمل الحياة، أي أنه يجسد الحكمة أو الحس الشعبي العام للمجتمع في مكانه وزمانه، بحيث تعكس سلوك الأفراد المحكومين بسلطة شعبية ورسمية.
لكنّ هذه التعبيرات المتخمة بالمعاني، كانت تتراوح بين النقائض من التسليم بقدرية ترى أن الطبقية والفقر والغنى هي أمور مكتوبة على الجبين، ومُسلّم بها من باب القسمة والنصيب، ولا رادّ لها إلّا الله، لذا يُلح المثل الشعبي على تبرير الفرق بين الغني والفقير، وبين العامة والخاصة من أهل السلطة والثراء، المتحكمين بوسائل العمل والإنتاج مثال هذا الاتجاه “لما انا امير وانت امير مين يسوق الحمير” ومثله كذلك “العين ما تعلى على الحاجب”، و”اللي بطّلع لفوق تنكسر رقبته” و”على قد لحافك مد رجليك” في تسليم تام لظرفية تقر التفاوت بين الناس، وترسخ نظرة القدرية التي ترتضي الخضوع والسكون بحكم الواقع الأليم، كما هناك المناداة بالتسليم لحالة القهر أو الظلم الذي تجسده السلطة، ممثلة برجالها المتنفذين وضرورة المهادنة معهم في زمن ما مثل “اسجد للقرد في زمانه” و”اليد اللي ما تقدر تعضها بوسها” و”اذا الك عند الكلب حاجة قله يا سيدي” و”اذا الناس عبدت جحش حش وارميله ” في المطالبة بامتهان كرامة الإنسان أمام الغير، غريبا كان أو قريب، وأمام السلطة الجائرة سواء كانت رسمية أو اجتماعية، بل إن ظلم السلطان في هذه الثقافة مبرر “إن عدل السلطان جارت الرعية” فالرعية ضمن هذه النظرة محتقرة فهي مثل الثور “إن شبع نطح”. هذه نظرة تؤسس للخضوع ونبذ فكرة التصدي للظلم، بل من الحكمة التسليم لأهل السلطة، لما يمتلكونه من قوة وبطش والتسليم لهم بالظلم والفساد، مثل “اللي إله ظهر ما ينضربش على بطنه” في تمجيد للوساطة التي تتجاوز على العدالة، وهذا كله يؤسس للفساد وقرينه الاستبداد.
لكن على النقيض تماما، نرى أن هناك من “الأمثال الشعبية” ما يعكس نظرة مغايرة- لما ورد آنفا – ممّا يحث على الثورة في وجه الظلم والخضوع، خاصة أن نهج التدين لا يقبل ذلك، بل ويحث على مقاومة الظلم، ولو في أدنى حدوده من قبيل الهجرة في أرض الله الواسعة، ودالة ذلك أن وقعت حالات من الثورة على القهر والظلم، وبرز أبطال تغنّى الناس بشجاعتهم، ويُضرب المثل بصنيعهم عبر الزمن، ومن تلك الأمثال “ما بقطع الراس غير اللي ركبه” و”اللي بسقط من السما بتتلقاه الأرض”، وهنا تسليم عكسي للقدر، يحث على الشجاعة من باب أن العمر واحد والموت واحد، وفي هذا تمجيد للشجاعة وحث على التمسك بالحق وإن طال الزمن “ما ضاع حق وراءه مطالب” و “يا فرعون مين فرعنك قال ما لقيت حد يردني”.
أيضا كان هناك العديد من الأمثال التي تنبذ الضعف من مثل “إذا لم تكن ذئبا اكلتك الذئاب” و “لا يفل الحديد الا الحديد” و “الجور ما بحمله الثور” والحيط الواطي كل الناس بتنطه” لكنّ الحق يحتاج لقوة تحميه، فالظالمون يجتاحون الضعيف، ولا أعتقد أنني بحاجة لتفسير كل مثل على حدة، لوضوح المراد منه، كما لا يلزم ضبط كلماتها لكونها شعبية غير مقيدة.
من خلال الطرح السابق نرى أن اتجاه “المثل الشعبي” ينتعش في زمن ما تبعا لطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وكما تكون قبضة السلطة السائدة في حينه، ونجد أيضا أن هذه الأمثال بمعانيها يتداولها كل العرب وإن اختلفت كلماتها، وهذا يعبر بدوره عن وحدة العرب في ظرفي المكان والزمان، والحال المشترك الذي يعيشونه، فالمقارنة بينهم كانت دائما ما تقع بين مرٍ وأمّر.
الدوحة – قطر

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة