الاختفاء العظيم: كيف هرب كبار أعوان الأسد من سوريا وضاعت العدالة؟

مع انهيار نظام سوريا، كانت عيون العالم على رحلة هروب بشار الأسد. وخلفه، قام مسؤولون محوريون في حكمه الوحشي بعملية خروج جماعي، تكاد لا تُكتشف.


يكشف هذا التحقيق، الذي يُعد من أكثر المواد توثيقًا حول مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، تفاصيل عملية الهروب الجماعي لكبار أعوان النظام السوري في أعقاب انهياره المفاجئ في ديسمبر 2024.

 

كما يتتبع التحقيق، مدعومًا بالأدلة والشهادات والوثائق المصورة، الطرق التي استخدمها كبار الضباط والمسؤولين للفرار من دمشق إلى الساحل السوري ثم إلى موسكو، بمساعدة مباشرة من القوات الروسية، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجه العدالة السورية والدولية في ملاحقة المتورطين بجرائم الحرب.

لم تمضِ فترة طويلة بعد منتصف الليل في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حتى تجمع العشرات في الظلام خارج القسم العسكري من مطار دمشق الدولي. حاملين ما استطاعوا حَزمه، صعدوا إلى طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية السورية.

قبل ساعة فقط، كانوا جزءاً من نخبة شكّلت العمود الفقري لأحد أكثر الأنظمة وحشية في العالم. الآن، في أعقاب السقوط المفاجئ للرئيس بشار الأسد وفراره من البلاد، صاروا فارّين، يتخبطون مع عائلاتهم للهرب.

كان من بين الركاب قحطان خليل، مدير استخبارات سلاح الجو في سوريا، المتهم بالمسؤولية المباشرة عن واحدة من أدمى المجازر في حرب البلاد الأهلية المستمرة منذ 13 عاماً.

وانضم إليه علي عباس وعلي أيوب، وهما وزيرا دفاع سابقان يواجهان عقوبات بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان وفظائع ارتُكبت خلال الصراع.

كما كان هناك رئيس الأركان عبد الكريم إبراهيم، المتهم بتسهيل التعذيب والعنف الجنسي ضد المدنيين.

رُويت لـ«نيويورك تايمز» رواية وجود هؤلاء وغيرهم من شخصيات النظام على متن الرحلة، من قبل راكب وشخصين آخرين من المسؤولين السابقين المطلعين على الرحلة.

علي عباس، وعلي أيوب، وعبد الكريم إبراهيم كانوا من كبار المسؤولين في سوريا، وجميعهم متهمون بتصدر الاستخدام العسكري للعنف العشوائي.

مع اقتراب هجومٍ خاطف للمتمردين من العاصمة السورية، جاء فرار السيد الأسد المتكتم خارج دمشق في وقت سابق من تلك الليلة مفاجئاً لدائرته الأضيق، وأصبح رمزاً للسقوط المذهل لنظامه.

سارع أتباعه للحاق به. خلال ساعات، لم تنهَر أركان منظومة قمع كاملة فحسب، بل تلاشت.

بعضهم استقل رحلات جوية. وآخرون أسرعوا إلى فيلاتهم الساحلية وانطلقوا بقوارب سريعة فاخرة.

هرب بعضهم في مواكب سيارات فارهة، فيما كان المتمردون عند نقاط التفتيش المنشأة حديثاً يلوّحون لهم دون دراية. واختبأ قلة في السفارة الروسية، التي ساعدت في تهريبهم إلى موسكو، الحليف الأهم للسيد الأسد.

بالنسبة لآلاف السوريين الذين فقدوا أحباءهم، أو تعرّضوا للتعذيب أو السجن أو التهجير على يد نظام الأسد، أصبحت وطنهم مسرح جريمة اختفى منه المشتبه بهم الرئيسيون جماعياً.

بعد عشرة أشهر على انهيار النظام، تواجه أمة محطمة بالحرب ليس فقط التحدي الهائل لإعادة البناء، بل أيضاً المهمة الشاقة المتمثلة في تمشيط العالم للعثور على الأشخاص الذين ارتكبوا بعض أسوأ الجرائم التي ترعاها الدولة في هذا القرن ومحاسبتهم.

يحاول مقاتلون سابقون من المتمردين وحكومة سوريا الناشئة تحديد أماكنهم عبر المخبرين، واختراقات الحواسيب والهواتف، أو عبر أدلة جُمعت من مقارّ النظام المتروكة. ويبني المدعون في أوروبا والولايات المتحدة قضايا أو يعيدون فتحها.

 

كما تجمع جماعات المجتمع المدني السورية ومحققو الأمم المتحدة الأدلة والشهود، استعداداً لمستقبل يأملون فيه تحقيق العدالة.

أهدافهم من أكثر الأشخاص تملصاً في العالم. كثير منهم امتلك سلطة هائلة لعقود، ومع ذلك ظلّوا ألغازاً عامة: أسماؤهم الحقيقية، وأعمارهم، وفي بعض الحالات حتى ملامحهم، كانت مجهولة.

أدى هذا الشحّ في المعلومات مراراً إلى أخطاء في التقارير الإعلامية، وعلى قوائم العقوبات وإنفاذ القانون.

 

ومن المرجح أنه ساعد بعض أسوأ الفاعلين سمعةً في النظام على الإفلات من السلطات السورية والأوروبية منذ سقوط السيد الأسد.

وسائل الاختفاء

على مدى الأشهر الماضية، عمل فريق تقارير في «التايمز» على ملء الفراغات حول أدوار وهويات حقيقية لـ55 من مسؤولي هذا النظام، جميعهم شخصيات حكومية وعسكرية سابقة رفيعة تظهر على قوائم العقوبات الدولية ومرتبطة بالفصول الأكثر دموية في التاريخ الحديث لسوريا.

 

شملت التحقيقات كل شيء من تتبع الآثار الرقمية وحسابات عائلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تمشيط الممتلكات المتروكة بحثاً عن فواتير هاتف قديمة ومعلومات بطاقات ائتمان.

وأجرى الصحفيون مقابلات مع عشرات المسؤولين السابقين في النظام، تحدث كثيرون منهم بشرط عدم الكشف عن هوياتهم لدواعٍ أمنية، وكذلك مع محامي حقوق إنسان سوريين، وجهات إنفاذ القانون الأوروبية، وجماعات مجتمع مدني، وأفراد من الحكومة السورية الجديدة. وزاروا عشرات الفيلات والأعمال المتروكة المرتبطة بوجوه النظام، وأعادوا بناء بعض طرق هروبهم.

اختيارات المحررين

لا تزال أماكن وجود كثير من هؤلاء المسؤولين الـ55 الرئيسيين السابقين الذين مكّنوا دكتاتورية السيد الأسد مجهولة، لكن من بين الدزينة التي عثرت عليهم «التايمز»، تتباين مصائرهم على نطاق واسع.

 

السيد الأسد نفسه في روسيا ويبدو أنه قطع اتصاله بمعظم دائرته الرسمية، وفقاً لمسؤولين سوريين سابقين وأقارب ومعارف.

أما ماهر الأسد، الذي كان الثاني بعد شقيقه بشار في السلطة على سوريا في عهد النظام، فقد أمضى وقتاً يعيش حياة منفى مترفة في موسكو، مع بعض قادته الكبار السابقين، مثل جمال يونس، بحسب روايات لمسؤولي نظام ورجال أعمال كانوا على اتصال بهم، فضلاً عن أدلة فيديو تحققت منها «التايمز».

آخرون، مثل غياث دلا، وهو عميد شاركت قواته في قمع عنيف للاحتجاجات، يعدّون ضمن عدة ضباط سابقين يخططون للتخريب من لبنان، وفقاً لقادة عسكريين سابقين، شاركوا أيضاً تبادلات نصية مع «التايمز».

 

وقال القادة أنفسهم إن دلا ينسّق مع قادة سابقين للنظام مثل سهيل الحسن وكمال الحسن من موسكو.

أبرم بعض المسؤولين صفقات مُلتبسة للبقاء في سوريا، وفقاً لقائد عسكري سابق وأشخاص يعملون مع الحكومة الجديدة. واكتشف صحفيو «التايمز» أن مسؤولاً واحداً، عمرو الأرمنازي، الذي أشرف على برنامج الأسلحة الكيميائية لدى السيد الأسد، ما زال يعيش في منزله في دمشق.

يمثل تتبّع مجموعة كبيرة كهذه من الشخصيات تحدياً هائلاً للباحثين عن العدالة. هناك قضايا جنائية ينبغي بناؤها، والمهمة المرهقة المتمثلة في إيجاد طريقة فعلية لمقاضاة مثل هذه القضايا.

لكن في صميم هذا التحدي يكمن سؤال عن أفضل السبل لتنسيق جهود البحث العالمية عن أشخاص لا يريدون أن يُعثر عليهم.

كان لكثير منهم وصول سهل إلى الدوائر الحكومية مكّنهم من الحصول على جوازات سفر سورية أصلية بأسماء مزورة، وفقاً لموظفين سابقين وشخصيات من النظام. وقد مكنهم ذلك، بدوره، من الحصول على جوازات سفر لدول كاريبية، كما قالوا.

وقال مازن درويش، رئيس «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» ومقره باريس، وهو مجموعة في طليعة جهود العدالة في سوريا: «بعض هؤلاء الأفراد اشتروا هويات جديدة عبر الحصول على جنسية من خلال استثمارات عقارية أو مدفوعات مالية. يستخدمون هذه الأسماء والجنسيات الجديدة للاختباء».

وأضاف: «لدى هؤلاء الناس الوسائل المالية للتنقل بحرية، وشراء جوازات سفر جديدة، والاختفاء».

مواقع رئيسية أثناء الهروب

تُظهر الخريطة المسار الجغرافي لعمليات فرار كبار مسؤولي النظام السوري بعد سقوطه في ديسمبر 2024. وتشمل المواقع التي وردت في التحقيق كالتالي: من دمشق وحمص في وسط البلاد، إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري، والتي كانت نقطة الانطلاق الرئيسية لهروب عدد من كبار المسؤولين العسكريين نحو روسيا.

 

Image1_1020251614281142671671.jpg

كما تشير الخريطة أيضًا إلى مواقع محيطة استخدمها بعض الفارّين في طريقهم، منها لبنان، تركيا، قبرص، العراق، إسرائيل،إضافة إلى البحر الأبيض المتوسط الذي كان طريقًا بحريا لهروب بعضهم عبر اليخوت السريعة من الفيلات الساحلية.

وتُظهر أيضًا منشآت رئيسية في العاصمة مثل وزارة الدفاع، السفارة الروسية، والمجمّع الأمني في جنوب غرب دمشق، فضلًا عن مطار دمشق الدولي الذي شهد انطلاق الرحلات الأولى لهروب أعوان الأسد.

كما يشار إلى منطقة قرى الأسد، التي كانت تُعرف كمقر إقامة للنخبة العسكرية والسياسية المقربة من الرئيس، وقد أُعيدت تسميتها إلى قرى الشام في عام 2024.

 

“لقد رحل”

بدأ الخروج الجماعي في وقت متأخر من ليلة 7 ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد لحظة إدراك صارخة.

 

لساعات، كان عدد من كبار مساعدي السيد الأسد المنتظرين قرب مكتبه في القصر الرئاسي يجيبون بثقة على مكالمات زملائهم وأقاربهم، بحسب ما قال عدة مسؤولين من عهد النظام كانوا على اتصال بهم تلك الليلة. وأكد مسؤولو القصر لهم أن الرئيس هناك، يصوغ خطة مع قادته العسكريين ومستشاريه الروس والإيرانيين لمواجهة تقدم قوات المتمردين.

لكن تلك الخطة لم تتبلور قط. وكذلك السيد الأسد.

وبعد أن أدركوا أنه رحل، تبع كبار المساعدين أثره إلى منزله، وفقاً لثلاثة مسؤولين سابقين في القصر. وبعد قليل، أبلغهم الحرس خارج منزل الرئيس أن مسؤولين روساً اصطحبوا السيد الأسد بعيداً في موكب من ثلاث سيارات دفع رباعي، مع نجله ومساعده الشخصي.

 

وبحسب مساعدي القصر السابقين، فإن المسؤولين الوحيدين الذين استدعاهم الرئيس للفرار معه كانا مستشارين ماليين اثنين. وقال شخصان من داخل النظام لاحقاً إن السيد الأسد سيحتاج مساعدتهما للوصول إلى أصوله في روسيا.

وصعد الرئيس السابق ومرافقوه إلى طائرة أقلّتهم إلى حميميم، وهي قاعدة جوية ساحلية تسيطر عليها روسيا، وكانت دعامة أساسية له في الحرب.

وعندما علموا بأمر الرحلة، بدأ المساعدون المتروكون يتصلون بشكل محموم بالمسؤولين الأمنيين والأحباء. كان المتمردون قد وصلوا إلى ضواحي دمشق، ولم تكن هناك لحظة لتُهدر.

قال أحد كبار المساعدين حين اتصل بقريب مقرّب، وهو يروي تلك الليلة لـ«التايمز»: «لقد رحل». وأمر عائلته بحزم حقائبهم والذهاب إلى وزارة الدفاع في ساحة الأمويين وسط العاصمة.

هناك، انضمّ كبير المساعدين وعائلته إلى عدة ضباط أمن آخرين تجمعوا مع عائلاتهم، واتصلوا بالسيد خليل، مدير استخبارات سلاح الجو.

 

وكان خليل قد رتّب رحلة هروب، هي التي نقلت العديد من كبار المسؤولين، إلى حميميم. أقلعت الطائرة، وهي طائرة خاصة من طراز «ياك-40»، من مطار دمشق حوالي الساعة 1:30 صباحاً في 8 ديسمبر/كانون الأول، وفقاً لراكب كان أحد مسؤولي القصر السابقين.

تتوافق تحليلات صور الأقمار الصناعية مع ذلك، إذ تُظهر أن طائرة «ياك-40» كانت على المدرج في دمشق في الأيام السابقة، ثم اختفت في الليلة المعنية، ويبدو أنها ظهرت في حميميم بعد ذلك بوقت قصير.

استرجع المسؤول السابق في القصر أن الركاب الذين حُشروا في الطائرة «كانوا في حالة ذعر». وقال إن الرحلة لا تستغرق سوى 30 دقيقة، «لكن في تلك الليلة، بدا كأننا نطير إلى الأبد».

وفي جزء آخر من المدينة، كان شقيق السيد الأسد، ماهر، رئيس الفرقة الرابعة المخيفة في سوريا، يسرع لتنظيم هروبه الخاص. اتصل بصديق للعائلة وأحد رجاله في الأعمال، بحسب شخصين مقرّبين. وحثّ ماهر الأسد الرجلين على مغادرة منزليهما بأسرع ما يمكن والانتظار في الخارج. وبعد قليل، اندفع بسيارته إلى الشارع، ثم انطلق بهما مسرعاً للحاق برحلته.

يرتبط المطار الخاضع للسيطرة السورية في حميميم، حيث هبط ما لا يقل عن خمسة من المسؤولين السوريين الذين تحقق «التايمز» بشأنهم، بقاعدة عسكرية تستخدمها روسيا.

لأعوام، كانت القوات العسكرية الروسية حاسمة في قدرة بشار الأسد على سحق التمرّد المسلح ضد حكمه. وفي المقابل، سيطرت موسكو على موانئ وقواعد استراتيجية على المتوسط، وحصلت على حق الوصول إلى صفقات مجزية لاستخراج الفوسفات والوقود الأحفوري.

وقد لعب الروس الآن دوراً حاسماً مشابهاً في هروب السيد الأسد—والعديد من كبار أعوانه. وصف شهود في حميميم في الساعات الأولى من الصباح ليلة الهروب حالة من الفوضى فيما كان المسؤولون المخلوعون يفرّون.

قال شاهدان إن الناس اتجهوا إلى القاعدة الروسية حاملين حقائب مليئة بالنقد والذهب. وأضافا أن الزيّ العسكري السوري المخلوع كان متناثراً في كل مكان.

وبحسب ثلاثة مسؤولين سابقين، هرع بعض المسؤولين لإعادة التجمع والتحدث إلى ضباط روس كانوا سينقلونهم بطائرات إلى موسكو في الساعات والأيام التالية.

أما العديد من أفراد عائلات شخصيات النظام فاختاروا بدلاً من ذلك أن تُقلهم سيارات إلى منازلهم الساحلية القريبة من القاعدة.

نهب الخزائن وتجنّب الكمائن

في دمشق، كان نحو 3,000 عنصر من أجهزة الاستخبارات العامة لا يزالون داخل المجمع الأمني الممتد في جنوب غرب العاصمة، غير مدركين أن نخب النظام قد فرت بالفعل. كانوا ينتظرون في حالة تأهب قصوى تحت إمرة مديرهم، حسام لوقا—وهو مسؤول أشرف على الاعتقال الجماعي والتعذيب المنهجي.

 

حسام لوقا، أقصى اليسار، مسؤول سوري سابق متورط في الإشراف على الاعتقال الجماعي والتعذيب المنهجي. يُرى هنا مع اثنين آخرين تحقق «التايمز» بشأنهما أيضاً: سهيل الحسن وعلي أيوب، الثالث والخامس من اليسار.

ووصف أحد كبار ضباط السيد لوقا مديرَه بأنه شديد التوقير للسيد الأسد. وقال: «لم يكن ليحرّك منفضة سجائر من هنا إلى هناك دون أن يطلب الإذن من بشار».

واستذكر الضابط أنهم تلقوا أوامر بالاستعداد لهجوم مضاد. لكن الأمر لم يصدر أبداً. وقال صديق للسيد لوقا إنه اتصل مراراً بمدير الاستخبارات تلك الليلة لطلب تحديثات، وكان يطمئنه دائماً بأنه لا يوجد ما يُخشى. ثم، عند الساعة الثانية صباحاً، أجاب السيد لوقا على الهاتف على عجل ليقول إنه يحزم أمتعته للفرار.

بعد ساعة، دخل ضباط السيد لوقا إلى مكتبه ليكتشفوا أنه تخلى عنهم دون أن ينطق بكلمة وأنه في طريقه للخروج، أمر محاسب جهاز الاستخبارات بفتح خزنة المقرّ، وفقاً لأحد ضباط السيد لوقا الذي كان حاضراً آنذاك. ثم أخذ السيد لوقا كل النقود التي بداخلها، وقدّرت بنحو 1,360,000 دولار. ويعتقد ثلاثة مسؤولين سابقين في النظام أنه وصل منذ ذلك الحين إلى روسيا، رغم أن «التايمز» لم تتحقق بعد من روايتهم.

وفي المجمع الأمني نفسه، نهب كمال الحسن، وهو مسؤول سابق رفيع آخر، مقره أيضاً. وأخذ قرصاً صلباً بالإضافة إلى المال الموجود في خزنة مكتبه الإداري، وفقاً لصديق وشخصية كبيرة من عهد النظام على اتصال بأحد نواب السيد الحسن.

لم يكن هروبه سلساً كغيره. فقد أُصيب السيد الحسن خلال تبادل لإطلاق النار مع المتمردين بينما كان يحاول مغادرة منزله في إحدى ضواحي دمشق المعروفة سابقاً باسم «قرى الأسد»، وهي منطقة عاش فيها كثير من نخب النظام في فيلات فاخرة. وهرب بالتخفي من منزل إلى منزل، وفقاً للصديق ومسؤول من عهد النظام، قبل أن يصل في نهاية المطاف إلى السفارة الروسية، التي آوته.

اتصلت «التايمز» بالسيد الحسن عبر وسيط تحدّث إليه هاتفياً، لكنه لم يكشف عن مكانه أو يوافق على إجراء مقابلة. غير أنه روى هروبه تحت النار، وقال إنه أُوي في «بعثة دبلوماسية»، قبل مغادرته سوريا.

مسؤول آخر لجأ إلى السفارة الروسية كان مدير الأمن القومي المتقاعد علي مملوك، الذي ساعد في هندسة منظومة الاعتقال الجماعي والتعذيب والاختفاء التي شكّلت سمة بارزة لخمسة عقود من حكم الأسد.

وبحسب كلٍّ من صديق قال إنه كان على اتصال به، وقريب له، علم السيد مملوك بانهيار النظام من مكالمة هاتفية قرابة الرابعة صباحاً. وأثناء محاولته الانضمام إلى مسؤولين آخرين كانوا يفرّون إلى المطار، تعرض موكبه لكمين، وفقاً لما وصفته المصادر.
ورغم عدم وضوح هوية مهاجميه، فإنهم قالوا إن لديه أعداء كُثراً.

وباعتباره مديراً للاستخبارات ليس فقط لدى السيد الأسد، بل أيضاً لدى الدكتاتور الراحل ووالده، حافظ، فإنه كان يعرف أسرار الحكومة. وقال أحد أصدقائه: «كان الصندوق الأسود للنظام ليس منذ أيام بشار فحسب، بل منذ أيام حافظ. لقد كان يعرف كل شيء».

وتمكّن السيد مملوك من الإفلات دون أن يصاب بأذى واندفع إلى السفارة الروسية، وفقاً لثلاثة أشخاص مطلعين على هروبه.

وتحصّن السيد مملوك والسيد الحسن هناك إلى أن رتّب المسؤولون الروس موكباً محروساً لنقلهما إلى قاعدة حميميم. وقال الأشخاص الثلاثة لـ«التايمز» إن الرجلين وصلا لاحقاً إلى روسيا.

مواجهات قريبة

قال عدة شخصيات من النظام السابق إنه، في مسعى للتقليل من مقاومة النظام، كان هناك تفاهم ضمني بأن قادة المتمردين سيغضون الطرف عن معظم الموالين للأسد الفارين نحو الساحل السوري على البحر المتوسط، موطن الطائفة العلوية التي ينتمي إليها السيد الأسد، وحيث جنّد النظام كثيراً من قوات أمنه.

 

لكن من غير المرجح أن تُمنح مثل هذه المساهلة للواء السابق بسام حسن. قليلون ضمن الدائرة الأضيق للسيد الأسد كانوا أكثر رهبةً من السيد حسن، المتهم بسلسلة طويلة من الجرائم، من تنسيق هجمات النظام بالأسلحة الكيميائية إلى خطف الصحفي الأميركي أوستن تايس.

ومع ذلك، تمكن السيد حسن من الفرار دون أن يُكتشف أمره، رغم أنه كان نائماً خلال الساعات الأولى الصاخبة من سقوط النظام. وتم إيقاظه قبل الساعة الخامسة صباحاً بقليل، عندما أيقظه أحد قادته الكبار، وفقاً لثلاثة أشخاص مطلعين على قصته.

وسرعان ما جهّز السيد حسن موكباً من ثلاث سيارات تحمل زوجته، وأبناءه البالغين، وحقائب محشوة بالمال، وفقاً لاثنين ممن اطّلعوا على قصته. وكان قلقاً للغاية من هجوم محتمل لدرجة أنه جعل زوجته وأولاده يستقلون سيارات مختلفة، كما قال أحد معارفه، لتجنّب إصابة العائلة كلها دفعة واحدة.

وحين اقترب موكبهم من مدينة حمص، على بُعد نحو 100 ميل شمال دمشق، أوقف المتمردون السيارة الأولى، وهي سيارة رياضية متعددة الاستخدامات، وأجبروا زوجة السيد حسن وابنته على النزول. وأُمِرَتا بترك كل شيء داخل المركبة، حتى حقائب اليد، وفقاً لشاهد.

وبدا أن المتمردين اكتفوا بغنيمتهم، فلم يولوا أي اهتمام حين صعدت المرأتان إلى السيارة الثانية، لتنضمّا إلى أحد أكثر أعوان نظام الأسد رهبةً.

كانت فرص المتمردين للتعرف عليه ضئيلة. فقد دارت في الإعلام منذ زمن صور مزيفة للسيد حسن. وحتى حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا لا تستخدمان الاسم الصحيح أو سنة الميلاد الصحيحة للسيد حسن في وثائق العقوبات الخاصة به. وقد حصلت «التايمز» على أحدث صورة ربما تكون الوحيدة الموثّقة للسيد حسن وتحققت منها.

وبعد اجتياز نقطة التفتيش، شقّ السيد حسن طريقه في نهاية المطاف إلى لبنان ثم إيران بمساعدة مسؤولين إيرانيين، وفقاً لمقابلات مع مسؤولين من نظام الأسد ولبنان والولايات المتحدة.

ومنذ ذلك الحين عاد إلى بيروت كجزء من صفقة لتقديم معلومات لمسؤولي الاستخبارات الأميركية. وقال معارف إنه كان يمضي وقته في المقاهي والمطاعم الفاخرة مع زوجته. وعندما تم الاتصال به على رقم «واتساب» لبناني، رفض إجراء مقابلة.

واقع مُرّ

بالنسبة لعشرات آلاف السوريين الذين كانوا ضحايا نظام الأسد، تبدو مساعي العدالة بلا وجهة.
لا يزال السؤال مطروحاً عما إذا كانت الحكومة الحالية، برئاسة الزعيم الإسلامي السابق أحمد الشرع، لديها القدرة أو الإرادة لملاحقة مسؤولي الأسد المتهمين بجرائم حرب بشراسة—الأمر الذي من شأنه، بدوره، أن يسلّط الضوء أيضاً على الجرائم المزعومة لبعض مسؤوليها.

 

ومع انقسام القوى الأجنبية طويلاً حول الحرب في سوريا والانتفاضة ضد دكتاتورها السابق، فليس هناك أمل كبير في قيام محكمة دولية أيضاً.
بالنسبة لأولئك الذين يقاتلون لضمان ألا تتلاشى جرائم النظام في طيّات التاريخ، يبقى واقع مُرّ: كبار منفذي أوامر السيد الأسد ما زالوا يعيشون بالبذخ، وما زالوا خطوة متقدمة على مطارديهم.

وقال صديق لعدة مسؤولين كبار سابقين في النظام: «رجال الأسد يشربون الويسكي ويلعبون الورق في موسكو، أو يسترخون في بعض الفيلات. لقد نسوا أي مكان كان يُسمى سوريا».

 

 

 

من قام بهذا التحقيق في النيويورك تايمز:

 

 

 

المادة التالية ترجمة كاملة لتقرير موسّع نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان:

“The Vanishing Act: How Assad’s Top Henchmen Fled Syria, and Justice” نُشر التقرير بتاريخ 16 أكتوبر 2025 على موقع The New York Times الإلكتروني، وهو من إعداد الصحافيين: إريكا سولومون (Erika Solomon)، كريستيان تريبرت (Christiaan Triebert)، هايلي ويليس (Haley Willis)، أحمد مهدي (Ahmad Mhidi)، وداني مكي (Danny Makki)، بمشاركة إضافية من ديفون لوم ونيل كولير في إعداد التقارير، وكريستوف كوتل في تحليل صور الأقمار الصناعية.

 

 

 

ساهم ديفون لَم ونيل كولير في إعداد التقارير. وساهم آرون بيرد في إنتاج الرسوم المتحركة. وقدّم كريستوف كويتِل تحليلاً إضافياً لصور الأقمار الصناعية.

 

وكريستيان تريبرت مراسل في «التايمز» يعمل ضمن فريق التحقيقات البصرية، وهو فريق يجمع بين الصحافة التقليدية والتحري الرقمي وتحليل الأدلة المرئية للتحقق من الحقائق ومصدرها من أنحاء العالم. ومعهم هايلي ويليس مراسلة في «التايمز» ضمن فريق التحقيقات البصرية، تغطي الصراعات والفساد وحقوق الإنسان.

وكالات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة