الحرية المنفلتة للطفل وانحدار القيم: بين قانون الحماية وتراجع أدوار المربين// د. باسم القضاة

 

في السنوات الأخيرة، برزت قوانين حماية الطفل كضرورة حضارية تفرضها المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وهي خطوة مهمة لضمان سلامة الطفل النفسية والجسدية، ومنع أي شكل من أشكال العنف أو الاستغلال. إلا أن الواقع المجتمعي يشهد فجوة بين المقصود من هذه القوانين وما آلت إليه تطبيقاتها وتأثيراتها، لاسيما حين تُفهم بشكل منقوص، أو تُستخدم ذريعة للتنصل من المسؤولية التربوية.
قانون حماية الطفل: هل تحول إلى سلاح ذو حدين؟
لم يكن الهدف من سنّ قانون حماية الطفل تفكيك الأسرة أو إلغاء سلطة المعلم، بل حماية الطفل من العنف والتمييز. لكن ما حدث في بعض السياقات هو تضخيم جانب الحريات على حساب المسؤوليات، ما جعل بعض الأطفال يتجرأون على التمرد تحت شعار “لي حقوق ولا يحق لأحد تأديبي”.
أصبحت عبارة مثل: “سأتصل بحماية الطفل” أداة ضغط يستخدمها بعض الأبناء ضد والديهم أو معلميهم، ما خلق بيئة من الخوف والتردد في التربية، وبالتالي ضعف التوجيه وانحدار القيم.
الأسرة: رقابة متراجعة وعجز تربوي
في ظل هذا المناخ، تراجعت الرقابة الأسرية بشكل ملحوظ. فإما أن الأهل منشغلون مادياً أو خائفون من العقاب القانوني، أو أنهم يفتقرون للمهارات التربوية البديلة، خاصة حين يُمنع الضرب أو التوبيخ ولا يتم تعويضه بأساليب فعالة في التربية الإيجابية.
وقد تسربت إلى بيوت كثيرة ثقافة “الحرية المطلقة”، وتُرك الطفل نهباً لمواقع التواصل ومؤثرين عابرين، فتكوّنت شخصيته في فراغ قيمي، دون رقابة أو توجيه.
المعلم والمدرسة: دور يتآكل وهيبة تتلاشى
لم تسلم المدرسة من هذا التغير. فقد أُضعف المعلم، وقُيّدت سلطته، حتى صار يخشى أن يمارس أي شكل من التوجيه الصارم خوفاً من شكوى قد تُفسر باعتبارها “إساءة”. ومع غياب هيبة المعلم، ضعفت العملية التربوية، واقتصر دور المدرسة على تعليم أكاديمي لا يلمس وجدان الطفل ولا يرسّخ انتماءه أو أخلاقه.
ثمرة ذلك: جيل هش الهوية، مائع القيم
نرى اليوم نتائج هذه التراكمات في صور مؤسفة: تنمّر مدرسي، لغة حادة، قلة احترام للكبار، ضياع ثقافي، وهشاشة في مواجهة التحديات. لقد انحسرت مرجعيات الطفل الأخلاقية، فلم يعد ينظر إلى والده أو معلمه كنموذج، بل إلى يوتيوبر أو تافه رقمي يثير الضحك أو الجدل.
ما الحل؟ التوازن هو الجواب
لسنا ضد حماية الطفل، لكننا بحاجة إلى إعادة التوازن بين الحرية والانضباط، بين الحقوق والواجبات، بين الحماية والمحاسبة. وعلى الأسرة أن تستعيد دورها، والمدرسة أن تسترد مكانتها، في ظل شراكة مجتمعية قائمة على الحوار، لا الاتهام. فبناء الإنسان لا يتم بالقوانين فقط، بل بالتربية الواعية، والمجتمع المتكامل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة