الدبلوماسية القطرية…الدور وإلاشكال/ د. منصور محمد الهزايمة

من يتابع حراك الدبلوماسية القطرية منذ عقدين من الزمن على أقل تقدير تأخذه الدهشة، ويتملكه الاعجاب، تبعا لحجم وعدد الأزمات التي تداخلت معها، ونسبةً لقدرتها على نزع الفتيل من الصاعق، وتفكيك عقدها، بل إن دبلوماسية الوساطة في السياسة القطرية تُعد نهجا اصيلا من خلال ما نص عليه الدستور القطري بأن سياسة دولة قطر تسعى دائما لتحقيق الحلول السلمية التي تساعد على تثبيت السلام العالمي، وتعزيز التعاون مع الجميع، ويُعد ذلك من ركائز السياسة القطرية منذ (1995م) وحتى الأن، مما جعل الدوحة غير آبهة باعتبارات الجغرافيا والديمغرافيا، فانتزعت لنفسها دورا مستحقا على صعيد المنطقة والعالم قلّ نظيره، لتحظى بسمعة دولية مشرفة، يشهد لها الجميع، نظرا لما اتسمت به هذه الدبلوماسية من ذكاء مرصود أو محسود.
لعبت الوساطة القطرية دورا نشطا في إطفاء العديد من بؤر التوتر و الصراع، بحيث تمكنت من التهدئة في العديد منها، والتي كان من الممكن أن تطيح بحالة السلم الإقليمي أو العالمي، ومن أبرز ما قامت به حديثا الوساطة بين أمريكا وحركة طالبان، ومتابعة التطورات الأخيرة في أفغانستان، والتوسط في الملف النووي الإيراني، وفي قضية دارفور في السودان، وفي ملف لبنان الشائك دائما، وبين الفصائل الفلسطينية حيث بقيت تتوسط بينها لسنوات طويلة، ثم بين هذه الفصائل من جهة وبين إسرائيل في أكثر من حرب بين الطرفين، وطبعا الكثير من القصص لإطلاق سراح رهائن وأسرى في لبنان وسوريا وليبيا وارتريا، مما أضفى على هذه الدبلوماسية طابعا إنسانيا مقدرا، وغيرها الكثير مما لا يتسع المقام لذكره.
في الأزمة الخليجية كان أداء الدبلوماسية القطرية ملفتا بقيادة وزيرها الشاب وطاقم العمل من حوله، وتميز بذكاء واقتدار في مواجهة إقليمية ليست سهلة، لكنها بنت شراكات ومشاريع تعاون مع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، مما أفشل الحصار، ووصلت هذه الدبلوماسية بلباقة وهدوء واتزان إلى حل الأزمة بأقصى درجات الحرص على مصالح وقيم الدولة دون أن تتحمل خسائر تذكر، بل انتعشت هذه الدبلوماسية بعد إتمام المصالحة.
مرة أخرى من يتابع هذا النهج القطري يدرك دون أدنى جهد أهمية هذا الدور، الذي صنعته دبلوماسيتها إقليميا وعالميا، ويُلمح ذلك أيضا من توافد كبار الزائرين خاصة من المسئولين الغربيين إلى الدوحة للتشاور، وكان الدور النشط الذي لعبته الدبلوماسية القطرية في القضية الأفغانية مؤخرا مميزا، نظرا لما قامت به من دور أفضى لمصالحة بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، وعندما تغيرت السلطة هناك من جديد لعبت دورا إنسانيا في المحافظة على الأرواح، خدم العديد من الأطراف، وكان محل تقدير واعجاب من الجميع.
نهجت السياسة القطرية أسلوب الدبلوماسية التي تحشد كل ما تستطيع من أسباب القوة الناعمة، لتحقيق الهدف، مما جعل منها موضع قبول وترحيب في كثير من الأزمات، التي كان النزاع فيها فوق احتمال أطرافه، وكان لمصداقية الوساطة، وحياديتها، وتحفيز الأطراف للوصول إلى حل سلمي أكبر الأثر في تحقيق هذه الدبلوماسية لمراميها، فضلا عن خفض التوتر بين أطراف النزاع.
يُشكل البعض على هذه الدبلوماسية بأنها تحظى بعوامل موضوعية من إمكانيات مادية أو مالية، تمكنها من تقمص دور ربما لم تكن تناله دونها، لكن يُرد على هذا الاشكال بإنه حتى لو سلمنا أن ذلك كذلك، فأين الخلل عندما تُستخدم الإمكانيات لخدمة مصالح الدولة وتعزيز التعاون مع الغير وتحسين ظروف التفاوض لتحقيق اهداف ذاتية وبينية؟! بل إن السلام العالمي لا يصمد بوقف الحرب فقط، إذ أن تنمية مناطق النزاع، وحفظ كرامة الإنسان، وتوفير احتياجاته الأساسية، هو الضمان الحقيقي للسلام العالمي.
لفت انتباهي تغريدة للشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء دولة قطر السابق قبل أيام يدعو فيها القطريين للتواضع، وعدم الغرور، احتفاءً بما أنجزته دبلوماسية بلادهم فيما يخص حل الأزمة الخليجية، بل وبما تحققه اليوم من إنجازات على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالنجاح قد يكون مستفزا، وربما يثير الضغينة.
ربما يجدر بنا في هذا المقام أن نتذكر مقولة الخليفة معاوية بن أبي سفيان التي اعتبرت بمثابة تعريفا قديما للدبلوماسية لدى العرب: “لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإن شدّوها أرخيتها”، فهي تبرز شدة الحرص على العلاقات مع الأخرين، بما يتطلبه ذلك من دقة ومرونة وعطاء، بل وذكاء.
الدوحة – قطر

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة