“الفنانين التشكيليين الفلسطينيين” موسوعة لحماية الذاكرة وصون التراث

يقول وزير الثقافة الفلسطيني الدكتور عاطف أبو سيف، إن إصدار الجزء الأول من “موسوعة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين 1863-1990″، يهدف للحفاظ على ثقافتنا وحماية ذاكرتنا وصون تراثنا وإبداعنا. قد لا تكون كاملة إذ إنه يتعذر حصر كل الفنانين الفلسطينيين في مائة عام في كتاب واحد، فقد تمت عملية الاختيار بما يكفل التمثيل الزمني والجغرافي والسياقي القائم على الموضوعات، ضمن نسق علمي يحقق الغاية من هذه الموسوعة والمتمثلة في تقديم صورة متكاملة عن الفلسطيني في قرن من الزمن.

ويضيف أبو سيف في مقدمته للموسوعة الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية، الإدارة العامة للفنون، تقدم هذه الموسوعة كوكبة مهمة لإبراز الفنانين الفلسطينيين خلال المئة عام الماضية، فالفن الفلسطيني قام على مدار المائة عام بأدوار مختلفة ومركبة، فهو من جهة عبر عن الإنسان الفلسطيني، وتقلبات حياته حيث كانت “النكبة”، وما نتج عنها من تشرد ولجوء أبرزه، ومن جهة أخرى عكس وعيا فنيا ومتقدما جهة الأسلوب والتكنيك والعرض.

ويرى أبو سيف أن الفن الفلسطيني ارتبط في الفترات اللاحقة مثل الكثير من الآداب والفنون الفلسطينية بالأرض، بوصفها المعادل المكاني الضائع المبحوث عنه والفردوس المنشود، لذا ظهرت تلك العلاقة بين الفلسطيني والأرض، خاصة في الفلاحة والمشهد العام للقرية والقطاف والحصاد والسامر بشكل جلي، كما انعكس الألم الفلسطيني الناتج عن القربة المكانية وما رافق ذلك من نوستالجيا وحنين وشرود وتفكير في تصوير الشخصية في المراحل الأولى بعد النكبة.
ويشير أبو سيف إلى أن الموسوعة ركزت على عرض الأعمال الفنية التي تتشكل وتتجسد من خلال اللوحة، على أمل أن تقوم الوزارة في إصدارات لاحقة بالتركيز على أشكال الفن التشكيلي مختلفة، حيث تهدف هذه الموسوعة للحفاظ على المنجز المعرفي والثقافي الفلسطيني، وتقديمه للأجيال اللاحقة من منظور عام وشامل، ضمن التطوير الطبيعي للحياة في فلسطين ولقضية شعبنا الأساسية.
وخلص أبو سيف إلى أن الفنان الفلسطيني واكب تطورات الفن الحديث والمعاصر من حيث الفكرة والتكنيك، مما وضع الأعمال الفنية الفلسطينية على تماس مع المنتج الفني وجعلها قادرة على أن تقدم نفسها بصورة متجددة، فخلال هذه الرحل التي تقدمها الموسوعة من أجل ان نكتشف تاريخ الفن الفلسطيني في قرن من الزمن فحسب، بل نكتشف تطورات هذا الفن وما طرأ عليه من تحولات، سواء على صعيد العرض أو الموضوع أو الاستخدامات ورغم أن الحديث عن الفن الفلسطيني موضوع واسع، خاصة مع ظهور أعمال النحت وفن الفيديو والتركيبات الإنشائية وغيرها من طرق العرض المعاصرة.
فيما كتب الفنان التشكيلي الفلسطيني منذر جوابرة تحت عنوان “عن هذا الكتاب”، يقول فيها إن الجزء الأول من “موسوعة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين 1863-1990″، تعد بمثابة مرجع يعيد تقديم الفنانين التشكيليين الناشطين على الساحة الفنية، من رحلوا، من أواخر القرن التاسع عشر، وحتى أواخر القرن العشرين عبر رحلة من البحث والتقصي والتواصل للوصول للمعلومة من المصدر أو من ينوب عنهم، والتي استطعنا من خلالها تقديم عدد لا بأس به من الفنانين الذين شاركونا بوقتهم وإنجازاتهم، وكانوا أساس نجاح هذا المشروع أولا وأخيرا.
ويعتبر الجوابرة إن هذه الموسوعة تفتح الباب واسعا للاستمرار بهذا الجهد، والحصول على عدد أكبر من الفنانين الذين لم نستطع حصرهم كاملا، في حين كانت المؤشرات تصل أحيان لعدد يتجاوز سبعمائة فنان فلسطيني حول العالم، منهم من لم يكمل مسيرته، ومنهم من اختار التدريس والعمل مجالا بديلا، ومنهم من استشهد أو اعتقل، وكذلك من كانت الظروف الاقتصادية عائقا في استمرار تجاربهم وغيرها من الأسباب التي حالت دون استمرارهم في الإنتاج الفني، وإذ نقدم التحية لكل من ساهم ونشط وعمل وحاول أن يكون فاعلا في هذا المسار الذي شقت طريقه بالمعاناة منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، لما تواجه هذه التجارب من صعوبات سياسية واجتماعية واقتصادية، والتي تحول دون استمرار البعض منهم بالرغم من خصوصية تجاربهم وغزارتها في أوقات سابقة.
ويضيف الجوابرة اعتمد البحث لإنتاج هذه الموسوعة على سياسات واضحة وشفافة من خلال وضع معايير فنية، تتلخص بضرورة نشاط الفنانين عبر استمرار الإنتاج وإقامة المعارض والنشاطات، على أن تشمل هذه الموسوعة كل فنان قدم معرضين شخصي فأكثر، وكذلك مجموعة من المعارض الجماعية المحلية أو الدولية، وهي لا تعني أن أي فنان غير مذكور في هذا الكتاب هو غير معترف به، أو لا تنطبق عليه المعايير الفنية، وإنما سهولة التواصل وصعوباتها لعبت دورا في ذلك. كما بقي الباب مفتوحا لإضافة أي من التجارب الأخرى والتي لا تنطبق عليها هذه المعايير، مثل تجارب خاصة، أو غير معروفة ولم تتوفر لها الفرص الكافية.
ويؤكد جوابرة على أنه تم التواصل وبشكل مباشر مع أكثر من أربعمائة وخمسين فنانا فلسطينيا حول العالم، في حين تجاوب لمرحلة محدودة من الوقت حوالي “350”، فنانا، تم التواصل مع الفنانين بأكثر من وسيلة، منها الإيميلات الرسمية، والتلفونات ومواقع التواصل الاجتماعي وطرق أخرى ساهمت في الوصول لأكبر عدد من الفنانين. كما تم التواصل المباشر مع ما نسبته 90 % من الفنانين أو من ينوب عنهم في حالة وفاتهم أو لأسباب أخرى، وتم تصحيح المعلومات ومراجعتها من الفنانين، والحصول على الأعمال الخاصة بهم، إلا في حالات أخرى، فأنه تم الاستعانة بالمؤسسات والمقتنين لتوفير هذه الأعمال.
ويوضح جوابرة أن الساحة الفلسطينية عانت منذ عشرينيات القرن العشرين من فرص غير ثابتة للعروض الفنية، وتحولت طاقة العروض إلى حالة إنتاج فردية تتبناها المؤسسات المجتمعية والوطنية التي تتطلع من خلال اهتماماتها إلى نوع معين من الفن، والذي كرس الموضوع الوطني والهوية والأرض والمقاومة، وهي لم تأتي بمعزل عن إرادة الفنان، بل من خلال خياراته وارداته في التوجه لمعالجة قضايا ساخنة ظهرت بوادرها منذ الانتداب البريطاني، الذي سخر كافة قواه لهدم الهوية والثقافة الفلسطينية، واستبدالها بمجالات أخرى، سارع حينها بالسماح للعصابات الإرهابية الصهيونية بالاعتداء على القرى الفلسطينية وقتل وترويع السكان، إضافة لعمليات السرقة والنهب والحرق للأراضي والمحاصيل والأعمال الفنية وغيرها، والتي ساهمت في تغييب المشهد الثقافي والفني في ظل مواجهة التعديات والتهديدات البريطانية والصهيونية.
ويشير جوابرة أنه من خلال عملية البحث والتوثيق، اتضح أن عشرات اللوحات والأعمال الفنية فقدت خلال وبعد النكبة، وهذا يعزز فكرة الاعتقاد بمحاولات محو الثقافة الفلسطينية عبر سياسات ممنهجة للاحتلالين البريطاني والإسرائيلي، وتهميش الإرث الثقافي والشعبي لأهل فلسطين، والتي ما تزال سياساتها تسير حتى يومنا هذا. وفي ظل غياب المؤسسة الرسمية وغياب الاستراتيجيات طويلة الأمد في ذلك الوقت، وتبعا للظروف والتحولات على الحياة الفلسطينية آنذاك فقد أصبح المشروع الفني الفلسطيني، مشروعا منعزلا عن سياقه المؤسساتي الذي عمل على إنتاج العديد من التجارب المتنوعة والمختلفة والغزيرة في بعض الأحيان.
يتابع جوابرة: أتاح للتجربة التشكيلية الفلسطينية أن تتجاوز الإطار الأكاديمي والتقليدي بالبحث عن آفاق وتجارب مختلفة جمعت ما بين الكلاسيكية والحداثة والمعاصرة، وكذلك تنوع التجربة بحكم المؤثرات الأخرى على الفلسطينيين في أماكن تواجدهم، وهذا ساهم بشكل فاعل على أن تكون الفروق الإنتاجية كبيرة، ويلعب فيها المكان دورا كبيرا لما يوفره من فرص وعروض ونشاط.
ويرى جوابرة أن أي إضافة حول التجربة البصرية الفلسطينية، هي بمثابة حجر زاوية، وحجر أساس تستند عليه ذاكرة الفن الفلسطينية المستقبلية، والتي تقدم مثالا متعددا حول تنوع التجربة التشكيلية داخل فلسطين وخارجها، وكذلك تجربة الفنانين أنفسهم من خلال ما قدموه من عملية بحث وجهد وتجريب على مدار سنوات عديدة، استطاعوا من خلالها أن يُبرزوا الواقع الإنساني عامة، والتجربة الفلسطينية خاصة، وأن يعيدوا توثيق وتأكيد الدور الريادي في عملية النضال التي تجاوزت المائة عام، منذ الانتداب البريطاني من عشرينيات القرن العشرين، وحتى الاحتلالات المتعاقبة، وقد ساهم الفن وبجدارة في تأكيد الهوية الفلسطينية والعربية، بل وحافظ على مسار النضال عبر انضمام العديد من الفنانين لمنظمات فلسطينية مقاومة، اختارت أن يكون الميدان مساحة للتعبير عن الالتزام المطلق بالأرض والمكان.
وخلص جوابرة أنه في هذه الموسوعة ذكرى لبعض من الفنانين الشهداء، وكذلك الفنانين الأسرى الذين لعبوا دورا بارزا في الكشف عن معاناة المعتقلين خلف الجدران، في الوقت الذي لم يستطع أحد معرفة ما يدور في أروقة السجن إلا من خلال ما سُجل من ملاحظات وكتابات ورسومات استطاعت أن توثق هذه المشاهد.

عزيزة علي/ الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة