“القدس والإسلام.. دراسة في قداستها من المنظور الإسلامي” للمؤرخ عثامنة

ضمن برنامج مكتبة الأسرة “القراءة للجميع”، أعادت وزارة الثقافة طباعة كتاب “القدس والإسلام: دراسة في قداستها من المنظور الإسلامي”، الذي صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لأستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية في جامعة بير زيت المؤرخ خليل عثامنة.

جاء الكتاب في ستة فصول، يتحدث الفصل الأول عن القدس والموروث الوجداني العربي قبل الإسلام، فيما يتناول الفصل الثاني القدس والمنظور السياسي للإسلام، بينما يتناول الفصل الثالث القداسة الدينية لمدينة القدس، أما الفصل الرابع فيتحدث عن روافد القداسة، ويتحدث الفصل الخامس عن أدب الفضائل والقداسة الدينية، كما يتحدث الفصل السادس عن القدس وفريضة الجهاد.

الكتاب يتناول موضوع القداسة الدينية لمدينة القدس، منشأها ومنابعها وأصولها الإسلامية البحتة. فيبين أصالة هذه القداسة وبُعدها، بل خلوها من مؤثرات القداسة التي ارتبطت بالموروث الديني لدى أتباع الديانات السماوية الأخرى، وخصوصاً الموروث الديني اليهودي-المسيحي. كما يدحض الادعاءات التي حاول البعض، وما يزال، إلصاقها بمفهوم القداسة الدينية الإسلامية لينفي بذلك عنصر الأصالة عنها. وحرصاً من المؤلف على تأكيد أصالة القداسة الإسلامية، فقد تقصى وتتبع مقومات هذه القداسة المتجذرة عميقاً في القرآن والسنة الإسلامية ليثبت بالدليل القاطع طهر أصالتها الإسلامية ونقاءها.
في مقدمته للكتاب، يشير المؤلف إلى افتقار المكتبة العربية إلى دراسات علمية منهجية باللغة العربية عن مدينة القدس. فهذه المدينة على أهميتها، ومع ما تمثله وترمز إليه، لم تستقطب اهتمام كثير من الباحثين العرب من ذوي الاقتدار العلمي، أو ذوي الكفاية البحثية العالية التي تؤهلهم لولوج منابر البحث العلمي المتاحة، كالدوريات والمجلات الأكاديمية، سواء الصادر منها باللغة العربية، أو تلك الصادرة باللغات الأوروبية الحديثة. فكان ذلك سببا في ندرة ما كتبه الباحثون العرب مقارنة بما كتبه الباحثون الأجانب ونشروه عن مدينة القدس، حتى بات من المذهل أن يكتشف المرء تدني نسبة ما ينشره العرب قياسا بما ينشره غيرهم من أبناء الأمم الأخرى في هذا الموضوع.
يرى عثامنة أن الباحثين العرب تناولوا موضع القدس تناولا جزئيا في إطار بعض الدراسات المتعلقة بالقضية الفلسطينية ضمن حقبة التاريخ الحديث والمعاصر، بل بلغت درجة المتعلقة بالتقصير في أبحاث بعض هؤلاء حد الاكتفاء بالنقاط فئات ما تناثر من معلومات، وقد حرص المؤلفون الأجانب على نشرها وترويجها. ولم يكلف بعض الباحثين العرب نفسه عناء الغوص بحثا عن الحقائق التاريخية في مظانها الأصيلة في أعماق المصادر العربية الإسلامية؛ التاريخية والفكرية والدينية ذات الصلة بمدينة القدس، أو بفلسطين العربية الإسلامية.
ويقول المؤلف، تميزت مادة هذه الأبحاث المجتزأة بالطابع الوصفي البحث، البعيد كل البعد عن الكتابة التحليلية، وعن الأسلوب العلمي النقدي، فجاءت مادة باهتة وسطحية يغلب عليها عامل التقليد والتكرار، بحيث لا يمكنها أن تصمد أمام النقد المعياري الذي يأخذ به النقاد، والمعمول به في أوساط الباحثين المحققين، مؤكدا أن مدينة القدس تتعرض حاليا لأقسى مرحلة من مراحل الصراع مع الصهيونية، يتمثل ذلك في حملة التهويد الجارفة، التي تجاوزت ما سبقها من حملات كانت تقتصر على محاولة تزوير وتشويه المعطيات التاريخية والجغرافية للأرض والمكان.
وأكد عثامنة أن هدف هذه الحملة هو “طمس الوجه العربي والإسلامي للمدينة على مختلف الصعد الجغرافية والعمرانية والديموغرافية، وصولا إلى الطمس الكلي لتاريخ هذه المدينة الحضاري الإسلامي، وتترافق حملة التهويد حملات صهيونية متجددة بدأت قديما ولم تنقطع، وكانت تهدف، وما تزال، تهدف إلى اختراع تاريخ آخر للقدس خاصة، ولفلسطين عامة، ينسجم مع تطلعات الحركة الصهيونية وأهدافها الاستراتيجية؛ كما اخترعت، وما تزال تخترع لمستعمراتها ومستوطناتها التي تقيمها على أنقاض قرى فلسطين العربية ومدنها، تاريخا آخر بأسماء أخرى.
ودعا المؤلف المثقفين العرب لأن يلتفتوا للدور الذي يقوم به الاستشراق الإسرائيلي-الصهيوني، كإحدى أهم الأدوات المستخدمة في ترويج الطروحات الفكرية والأيديولوجية الصهيونية من جهة، واستخدامه أداة لتسفيه الرواية التاريخية الإسلامية، والتشكيك في صدقيتها عن طريق التشكيك في المصادر العربية-الإسلامية المبكرة التي تؤكد الهوية العربية الإسلامية للقدس ولفلسطين على حد سواء، من جهة أخرى.
ويوضح عثامنة أنه يلاحظ أحيانا لجوء بعض المؤلفين العرب إلى الاعتماد على بعض الأساطير التي يروجها، وما يزال يروجها بعض المستشرقين الصهيونيين، أو المتعاطفين مع الصهيونية، فيتخذونها دليلا على إثبات القداسة الدينية لمدينة القدس؛ فيجعلون من أسطورة الهيكل المنسوب إلى سليمان، على سبيل المثال، مسجدا سابقا للمسجد الأقصى. وهم حين يفعلون ذلك، إنما يحولون أنفسهم إلى أدوات مجانية لتمرير أخطر الطروحات الأيديولوجية الصهيونية التي أثبت البحث العلمي الرصين زيفها وبطلانها. وكأن هؤلاء وأمثالهم قد نسوا، أو قد تناسوا أن مثل هذه الأساطير قد استخدم أداة لطمس حقائق التاريخ الفلسطيني وتشويه الصلات التاريخية الأصيلة التي تربط الأمة العربية بمدينة القدس. والأغرب من ذلك أن هؤلاء الكتبة عندما يسوقون مثل هذه الأساطير في كتبهم، أو في مقالاتهم، يوهمون أنفسهم أنهم ينتصرون للموضوعية وفاء، في ظنهم للمنهج العلمي الأكاديمي.
ويقول المؤلف، لكل هذه الأسباب مجتمعة وبسبب المكانة المتميزة التي تستأثر بها مدينة القدس من دون سائر مدن المعمورة ومن دون بقاع الأرض الأخرى، فقد رأت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كما رأى أمين سرها البروفسور وليد الخالدي، أن تتمحور هذه الدراسة حول العلاقات التي تربط مدينة القدس بالإسلام -الإسلام العقيدة والإسلام المؤسسة- ببعدها الفكري والحضاري وتراثها العمراني والسياسي، فجاءت هذه الدراسة تلبية لهذا التوجه النبيل.
وخلص عثامنة إلى أنه حرص في هذه الدراسة على استجلاء حقيقة الصلات والوشائج التي تربط الإسلام والمسلمين بمدينة القدس، فغصتُ في أغوار التراث الديني والفكري للإسلام بحثا عن جذور هذه العلاقة وجوهرها، مع شيء من التفصيل أحيانا كي أميط اللثام عن غوامض المفردات والمصطلحات التي يصعب على القارئ فهمها بسبب اللغة العربية الكلاسيكية التي كتبت بها مصادرنا التراثية.
وفي الخاتمة، يقول عثامنة، إن هذه الدراسة تضع القارئ العربي في صورة الصلات الوجدانية التي كانت تربط ما بين مدينة القدس والإنسان العربي في فضاء البيئات العربية داخل جزيرة العرب وامتداداتها في الشمال والشمال الشرقي لبلاد الشام، ولبلاد ما بين النهرين، مبينا أنه تناول في هذا الكتاب التفاعلات الدينية والسياسية التي نشأت بين العرب ومدينة القدس، خصوصا مع بداية الفتوحات الإسلامية، وكيف تحولت المدينة محورا مركزيا من محاور العقيدة الإسلامية، وهو ما جعلها تتبوأ مكانة مرموقة على الصعيدين الديني والسياسي، وما أسبغه عليها الخلفاء المسلمون الأوائل من هالات التقدير والتجبيل، وخصوصا في حقبة الدولة الأموية، والتي أصبحت أساسا راسخا طوال الحقب الإسلامية التالية وما بعد ذلك من عهود.
ويوضح أنه تطرق في هذا الكتاب إلى أهم مرتكزات القداسة الدينية التي تزخر بها مدينة القدس بدءا بمؤسسة الإسراء والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، والدور الذي قامت به قبة الصخرة كمحور رئيسي من محاور القداسة لا في القدس خاصة، بل كمحور في قداسة رئيسي في الإسلام عامة، وأضفت هالة من القداسة لا على مدينة القدس وحدها، بل على بلاد الشام كلها، بحيث أصبح إقليم بلاد الشام إقليما منافسا لإقليم بلاد الحجاز على صعيد القداسة الدينية.
ويذكر أن الدكتور خليل عثامنة هو أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية في جامعة بير زيت، باحث ومؤرخ. له كتابان في تاريخ فلسطين الإسلامية صدرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت؛ الأول بعنوان “فلسطين في خمسة قرون” ويغطي تاريخ فلسطين منذ الفتح الإسلامي حتى الغزو الأوروبي الصليبي، والثاني بعنوان “فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي”. وله أيضاً مساهمات جادة في الدراسات التاريخية الإسلامية. وقام بتحقيق وتقديم ونشر الجزء السادس “ب” من موسوعة “أنساب الأشراف” التاريخية للمؤرخ والنسابة الكبير أحمد بن يحيى البلاذري.
وإضافة إلى ذلك، كتب عشرات الدراسات ذات الصلة بقضايا المجتمعات الإسلامية في العصور الوسيطة، باللغتين الإنجليزية والعربية، في أمهات الدوريات والمجلات الأكاديمية في الغرب والشرق العربي.

عزيزة علي/ الغد

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة