“النواب” بدورته الثانية.. بين التزكية السياسية ومطالب الشارع بالإصلاح الحقيقي

تفتتح الدورة العادية الثانية لمجلس النواب العشرين غدا، بإلقاء خطاب العرش السامي وسط مزيج واضح من الترقب للمرحلة المقبلة.
ويفتتح جلالة الملك عبدالله الثاني أعمال الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة بخطاب العرش السامي، الذي يرسم ملامح المرحلة المقبلة ويؤكد على مواصلة الإصلاح السياسي والاقتصادي وتعزيز الشفافية وتفعيل الدور الرقابي لمجلس النواب.

هذا الافتتاح يأتي بعد صدور الإرادة الملكية السامية بتأجيل انعقاد الدورة من 1 تشرين الأول (أكتوبر) إلى 26 منه، استناداً للمادة 78 من الدستور التي تجيز الإرجاء لمدة لا تتجاوز شهرين.
وينظر للتأجيل، كخطوة تهدف لاستكمال المشاورات النيابية وتنسيق المواقف حول انتخابات رئاسة المجلس والمكتب الدائم، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى مدى قدرة المجلس على ترجمة مضامين خطاب العرش لتشريعات إصلاحية ملموسة تعزز الثقة الشعبية بالمؤسسة التشريعية.
البرلمان يدخل هذه الدورة ليس بوصفه جسماً تشريعياً فقط، بل باعتباره جهة مطالبة أن يثبت أنه موجود وقادر على التأثير الفعلي في الملفات التي تمس حياة الناس، بعد مشهد سياسي أعيد ترتيبه حول خطاب “الإصلاح” و”التحديث” و”المسؤولية الوطنية”.
هذه الدورة هي اختبار للثقة وللانضباط الداخلي ولقدرة المجلس على أن يكون مختلفا عن الصور المتراكمة بوعي الشارع عن المجالس السابقة.
دورة مكثفة تشريعيا ورقابيا
فالدستور الأردني يحدد أن المجلس يعقد بدورة عادية مدتها 6 أشهر قابلة للتمديد حتى 9 أشهر بالحد الأقصى، وهذا يعني أن المجلس يدخل مرحلة عمل مكثف تشريعيا ورقابيا ضمن إطار زمني محسوب، لكن سياسيا لحظة افتتاح الدورة تمثل إعادة تشغيل كاملة للمشهد النيابي. وانتخاب رئاسة المجلس، وتشكيل المكتب الدائم، وإعادة توزيع العمل داخل اللجان، ثم الانطلاق بمناقشة القوانين والرقابة على الحكومة، فالمجلس لا يستطيع البدء بالعمل الفعلي قبل حسم رئاسته ومكتبه الدائم، وهذه النقطة تحديدا أصبحت ساحة السياسة الحقيقية في الأيام الأخيرة أكثر مما أصبحت ساحة القوانين.
انسحابات منظمة
قبل افتتاح الدورة العادية الثانية، تحولت معركة رئاسة المجلس إلى محور الحراك داخل مجلس النواب، فالأسماء التي ظهرت علنا لم تكن قليلة، لكن سرعان ما بدأت الانسحابات المنظمة. فالنائب الأول لرئيس النواب في الدورة العادية الأولى د. مصطفى الخصاونة، الذي كان مرشحا قويا ويمتلك حضورا في مشهد الكتل، أعلن انسحابه من سباق الرئاسة “إكراما للمجلس والكتل النيابية” ولصالح ترشيح مازن القاضي، وذلك في اجتماع موسع حضره رؤساء الكتل والمترشحون للرئاسة في منزل الخصاونة.
الانسحاب لم يقدم باعتباره تراجعا شخصيا، بل باعتباره خطوة “لضمان وحدة الصف النيابي” وتماسك المجلس في ظل الظروف الإقليمية والداخلية.
بهذه الخطوة، انتقل المزاج من تنافس مفتوح إلى شبه تزكية سياسية لصالح القاضي، مع ترويج خطاب “التوافق” و”عدم تشتيت المجلس”، فالرسالة الداخلية واضحة: المجلس يريد أن يقلل الاحتكاك العلني بين كتله التشريعية قبل أن يدخل دورة، ستُراقب من الشارع ومن الحكومة. والرسالة الخارجية أيضا واضحة: المطلوب إنتاج واجهة برلمانية مستقرة يمكن التسويق لها على أنها جاهزة للعمل وليست غارقة في صراع مواقع، لكن هذه الديناميكية تحمل سؤالا مباشرا: هل نحن أمام برلمان قادر على إدارة تنافس ديمقراطي شفاف داخل أروقته؟ أم أمام توافق فوقي يختصر التعدد ويقيد النقاش المباشر حول من يقود المجلس وكيف سيقوده؟ هذا سؤال مشروع لأن انسحاب الخصاونة نفسه جاء ببيان موحد، لا بمواجهة تحت القبة.
اللافت أن هذا ليس الانسحاب الوحيد، قبل ذلك، أعلن “تيار التغيير النيابي”، انسحاب نواب، مثل مصطفى العماوي ومجحم الصقور، من سباق الرئاسة لصالح الخصاونة نفسه آنذاك، على أساس بناء اصطفاف منظم خلف مرشح واحد، ثم عاد المشهد وتحول ليعاد توجيه هذا الاصطفاف نحو مازن القاضي. عمليا، ما جرى خلال الأسابيع القليلة الماضية هو عملية نقل مركز الثقل في الرئاسة من تعدد الأسماء إلى مرشح واحد متفق عليه بين كتل وازنة. هذا الأسلوب يحقق مكسبا سريعا بالانضباط الداخلي، لكنه يقلل الحد الأدنى من المحاسبة العلنية: لا مناظرات علنية جدية، لا طرح برامج إدارة للمجلس، ولا اختبار حقيقي لرؤية المرشحين حول الرقابة على الحكومة أو العلاقة مع السلطة التنفيذية.
المكتب الدائم مركز فعلي لتنظيم الجلسات
المكتب الدائم -الرئيس، النائبان الأول والثاني، والمساعدان- ليس تفصيلا إجرائيا، المكتب الدائم هو مركز قرار فعلي لتنظيم الجلسات، ترتيب جدول الأعمال، إحالة القوانين للجان، وإدارة العلاقة اليومية مع الحكومة، وفق ما يرشح من أسماء متداولة، يجري الدفع نحو صيغة مكتملة مسبقا تشمل توزيع المواقع، بما في ذلك موقع النائبين الأول والثاني، وحتى مقاعد المساعدين مع الحضور النسائي فيها، الفكرة التي يجري تسويقها داخل المجلس أن هذا “الاستقرار الإداري” شرط للإنجاز السريع، من حيث المبدأ، الاستقرار نقطة قوة. من حيث الممارسة، تثبيت التفاهمات قبل التصويت يجعل التصويت تحصيل حاصل، أي إجراء شكلي لا أكثر، وهذا يعكس المزاج البرلماني العام: الرغبة في ضبط البيت قبل الخروج للعلن.
لكن لماذا كل هذا القلق على صورة “البيت المنضبط”؟ السبب المباشر أن المجلس يدخل هذه الدورة في ظل حكومة برئاسة د. جعفر حسان، وهي حكومة جاءت بعد استقالة حكومة بشر الخصاونة، وأدت اليمين في 18 أيلول (سبتمبر) 2024، وجاءت محملة بعنوان الإصلاح الاقتصادي والسياسي في وقت واحد.
استطلاعات مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية عند تشكيل حكومة حسان، أشارت إلى أن نصف الأردنيين تقريبا (50 % من العينة الوطنية) قالوا إنهم يثقون بالحكومة، وأن 54 % يعتقدون أن الحكومة قادرة على تحمل مسؤوليات المرحلة المقبلة، مقابل ثقة أقل تقليديا في مجلس النواب ذاته. هذه المفارقة حاضرة: الحكومة الجديدة دخلت بمستوى ثقة أعلى من المستوى التاريخي للمجالس النيابية.
ضغط مزدوج أمام النواب
هذا يضع المجلس أمام ضغط مزدوج. من جهة، عليه أن يثبت أنه ليس مجرد ختم تشريعي لرؤية الحكومة، خاصة أن الحكومة الحالية تم التسويق لها على أنها حكومة تنفيذ تكليف مباشر من جلالة الملك عبدالله الثاني، مهمتها إدارة ملف الإصلاح السياسي والاقتصادي، وملفات حساسة مثل كلفة المعيشة، والبطالة، والإدارة العامة، والتعامل مع الوضع الإقليمي المشتعل.
من جهة ثانية، عليه ألا يدخل في صدام مجاني مع الحكومة في الأسابيع الأولى من الدورة، لأن الشارع لا يكافئ الصدام كخطاب، بل يكافئ النتيجة القابلة للقياس: هل خف العبء الاقتصادي أم لا، هل تحسنت الخدمات أم لا، هل صار هناك وضوح في المسؤولية أم لا؟
على المستوى التشريعي البحت، الملفات التي ستُطرح ليست سطحية، فمشروع القانون المعدل لقانون العقوبات لسنة 2025 موجود على الطاولة، وتظهر أجندة المجلس أن اللجنة القانونية رفعت قرارها بخصوصه في نيسان (إبريل) الماضي، ما يعني أن الحديث لم يعد نظريا، بل هناك رغبة بإدخال تعديلات حاسمة ذات مساس بالناس. بالتوازي، يواصل المجلس التعامل مع قانون تنظيم التعامل بالأصول الافتراضية لسنة 2025، وهو تشريع أقره المجلس بالأغلبية في أيار (مايو) بعد نقاشات مرتبطة بكيفية ضبط سوق الأصول الافتراضية كفئة مالية واقتصادية داخل الأردن، بدل إبقائها في الفراغ القانوني.
هذا القانون يضع إطارا لترخيص مزودي خدمات الأصول الافتراضية، ويفرض أن يكون المزود شخصية اعتبارية مرخصة داخل المملكة، مع رقابة مباشرة من هيئة الأوراق المالية على الامتثال لمتطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
قانون الأصول الافتراضية يذهب أبعد من ملف “العملات المشفرة”، هو محاولة لجذب الاستثمار الرقمي ورأس المال عالي المخاطرة إلى الأردن، وفتح نافذة اقتصاد رقمي يمكن تقديمه كجزء من “رؤية التحديث الاقتصادي”. إضافة إلى ذلك، يجري الآن التحضير لنظام ترخيص مزودي خدمات الأصول الافتراضية (مشروع نظام 2025) الذي من المتوقع أن يضع معايير واضحة للملاءة المالية والحوكمة والتزام قواعد مكافحة غسل الأموال، ويزعم أنه سينقل الأردن من مرحلة المنع غير المعلن إلى مرحلة التنظيم الواضح. هذا النوع من التشريعات يعطي المجلس فرصة أن يظهر بصفته شريكا في صياغة مستقبل الاقتصاد، وليس فقط متلقيا لقرارات الحكومة. لكن هذه الفرصة تتحول فورا إلى مسؤولية، لأن أي خلل في الرقابة أو أي فراغ تنظيمي سيتحول إلى باب للمضاربة المالية على حساب الناس.
إلى جانب ذلك، هناك البعد التقليدي الأكثر حساسية: علاقة المجلس بالشارع، فاستطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية في أيلول (سبتمبر) 2024، بعد الانتخابات النيابية التي جرت في 10 من الشهر نفسه، وشارك فيها نحو 32 % من الناخبين، أظهر أن 35 % من الأردنيين قالوا إنهم يثقون بالبرلمان، هذه النسبة أعلى مما كان عليه الوضع بالعامين 2021 و2022 عندما هبطت الثقة أحيانا إلى ما دون 20 %، لكنها لا تعني أن المجلس يحظى “بتفويض شعبي مريح”، الثلث فقط يعطي الثقة؛ أي أن ثلثي الشارع إما محايد أو غير واثق. هذا رقم لا يسمح لأي مجلس بأن يتصرف على أنه بمنأى عن المساءلة العامة.
بكلام مباشر، المجلس أمام معادلة واضحة: إما أن يتحول إلى مؤسسة قادرة على إنتاج أثر تشريعي ورقابي مفهوم للمواطن، أو يعيد إنتاج الانطباع القديم بأن المجلس يفاوض على المواقع أكثر مما يفاوض على القوانين. المزاج الشعبي الحالي لا يثق بالشعارات. الناس يريدون نتائج قابلة للقياس: أعباء المعيشة، العدالة في الفرص، الخدمات، الأمن الاجتماعي. لا أحد في الشارع يهتم فعلا بمن هو النائب الأول للرئيس أو من حصل على مقعد المساعد، إذا لم ينعكس ذلك على جودة التشريع والرقابة وعلى حياته اليومية. وهذا بالضبط جوهر المعضلة: المجلس استثمر جهدا ضخما في ترتيب رئاسته ومكتبه الدائم قبل حتى أن تبدأ الدورة، وبالتالي بات مكشوفا أمام سؤال: هل هذا الجهد سينعكس في الأداء أم كان هدفه الوحيد ترتيب البيت الداخلي لحماية الصورة؟
في المقابل، هناك من داخل المجلس من يبرر هذا الأسلوب ويقول إن البلد ليس في وضع رفاه سياسي يسمح بصراع علني بين رؤوس الكتل، الإقليم في حالة توتر أمني وسياسي، والاقتصاد يواجه ضغوطا حقيقية، والحكومة الجديدة نفسها ما تزال في طور “إثبات الجدارة”، لذلك، وفق هذا المنطق، من الأفضل أن يخرج المجلس بواجهة موحدة، برئيس يحظى بتوافق واسع، ومكتب دائم وازن سياسيا ومناطقيا وجندريا، بدل الدخول في معركة تكسير عظم أمام الرأي العام. هذه المقاربة تم تبنيها حرفيا في البيانات التي رافقت انسحاب الخصاونة، والتي تحدثت عن “تماسك المجلس ووحدة الصف النيابي وسعي الجميع لرفعة العمل النيابي وخدمة الوطن والمواطن”. هذا يعكس العقلية السائدة داخل المجلس اليوم: الأولوية للتماسك، ولو على حساب العلنية.
المشكلة أن هذا “الانسجام الوقائي” له ثمن، فغياب المنافسة العلنية على الرئاسة يعني غياب النقاش العلني حول أجندة الرقابة على الحكومة. حتى الآن، لا يسمع المواطن نقاشا واضحا عن الخط الفعلي الذي سيتخذه المجلس في مساءلة الحكومة: هل سيضغط في ملف الأسعار؟ وتحسين الخدمات؟ هل سيتعامل بجدية مع أي شبهات تضارب مصالح في سوق الأصول الافتراضية أو في التعيينات العليا؟ من دون أجوبة مباشرة، يبدو المشهد، بالنسبة للمواطن، كأنه ترتيب مواقع بين أسماء، لا كأنه بناء خط عمل رقابي يخصه شخصيا.
في هذه الدورة، سيكون من السهل جدا على المجلس أن يسقط في النمط المعتاد: جلسات افتتاحية مكتظة، كلمات سياسية منمقة، ثم انتقال سريع إلى نقاش تفسيري للقوانين بلغة تقنية معزولة عن الشارع. وسيكون من الصعب جدا إنتاج سلوك مختلف: كشف خطة رقابية زمنية قصيرة، متابعة أسبوعية مع الحكومة، مطالبة الوزارات بأرقام قابلة للقياس، وربط كل ملف تشريعي بأثره المباشر على حياة الناس. الفارق بين المسارين هو الفارق بين مجلس يطالب بثقة إضافية، ومجلس يُستهلك خلال أشهره الأولى من الدورة.
الدورة الثانية ليست مجرد استحقاق دستوري
وبالمحصلة، فإن الدورة العادية الثانية لمجلس النواب العشرين ليست مجرد استحقاق دستوري دوري. هي اختبار نضج، فالمجلس جاء بعد انتخابات اعتبرت “نزيهة وشفافة” لدى 73 % ممن شاركوا فيها، وهو رقم مهم لأنه يعطي شرعية إجرائية لا يمكن تجاهلها. لكنه يدخل الآن مرحلة شرعية الأداء، وهي أصعب بكثير من شرعية الصندوق. التوافق على مازن القاضي كرئيس متوقع، والانسحابات التي أوصلت إلى هذا التوافق، يعطيان المجلس فرصة بداية هادئة، لكنهما في الوقت نفسه يرفعان سقف التوقعات الشعبية: إذا كنتم قادرين على التوافق بهذه السرعة على رئيس ومكتب دائم، فلماذا لا تكونون بالسرعة نفسها في إنتاج قوانين واضحة لحماية الناس، وفي فرض رقابة فعلية على الحكومة الجديدة؟ هذه هي اللحظة الحقيقية التي ستحكم على المجلس، وليس لحظة التصويت الإجرائي تحت القبة.

محمود الطراونة/ الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة