تخدعُنا أوهامُنا ويشاركُها القَدَر! // سعيد ذياب سليم

–
حوادثُ حولَنا وأوهامُ الأمان
نسمعُ عن حوادثَ وقعتْ حولنا: حادثُ سيارةٍ بسببِ سرعةٍ زائدةٍ أو خطأٍ مروريّ، انفجارُ بطاريةِ هاتفٍ محمول، اختناقٌ بسببِ تسرُّبِ غاز، موتٌ مفاجئ، فشلُ مشروعٍ تجاريّ، أو حتى قصةُ حبٍّ انتهت. يمرُّ الخبرُ كما تمرُّ نشراتٌ عن حروبٍ وقعتْ في قارةٍ أخرى؛ نادرًا ما نتوقفُ عندهُ، أو نمرُّ عليهِ بلا مبالاة، مدفوعينَ بإحساسٍ زائفٍ بالأمان، وباعتقادٍ ضِمنيٍّ أننا مُحصَّنونَ ضدَّ تقلّباتِ الزمنِ وتحوّلاتِه. كأننا نمشي على حافةِ هاويةٍ مرئيّةٍ للآخرينَ وغيرِ مرئيّةٍ لنا، بينما نتصوّرُ أنَّ الأرضَ صلبةٌ وثابتةٌ تحتَ أقدامِنا.
هذا الشعورُ بالأمانِ ليسَ وليدَ العقلانيّة، بل نتاجُ آلياتٍ نفسيةٍ تجعلُنا نرى العالمَ أقلَّ خطورةً ممّا هو عليهِ فعلًا، وتُمهِّدُ الطريقَ لانحيازاتٍ معرفيّةٍ متكررةٍ في قراراتِنا اليوميّة.
انحيازُ البقاء (Survivorship Bias)
أحدُ هذهِ الانحيازاتِ هو ما يُعرَفُ بـ “انحيازِ البقاء”، وهو مَيلُ الناسِ بصورةٍ منهجيّةٍ إلى المبالغةِ في تقديرِ فُرَصِ نجاحِهم، لأنهم ينظرونَ فقط إلى مَن نجا ونجحَ، ويتجاهلونَ العددَ الأكبرَ ممَّن فشلوا واختفوا عنِ المشهد. نقرأُ قصصَ النجاح، ونستمعُ إلى شهاداتِ الناجين، فنظنُّ أنَّ الطريقَ مُمَهَّد، وأنَّ الفشلَ استثناءٌ نادر.
ولتفادي هذا الانحيازِ وآثارِه، يُستحسَنُ أن نزورَ ــ ذهنيًا على الأقل – “مدافنَ” المشاريعِ والاستثماراتِ والمساراتِ المهنيّةِ التي بدتْ يومًا واعدةً ثم انتهتْ إلى الفشل. إنَّ هذهِ الزيارة، رغمَ ما تثيرُه من حُزن، قادرةٌ على تصفيةِ الذهنِ وإعادةِ قَدرٍ من الوضوحِ والواقعيّةِ إليه؛ فهي تذكيرٌ صامتٌ بأننا، مهما بدا الاحتمالُ ضئيلًا، قد نكونُ أحدَ هذهِ الأخبارِ المنسيّة.
غيرَ أنَّ هذا الخداعَ لا يتوقفُ عندَ قراءةِ تجاربِ الآخرين، بل يمتدُّ ليشملَ الطريقةَ التي نُفَسِّرُ بها تجاربَنا الشخصيّة.
التحيّزُ لمصلحةِ الذات (Self-serving Bias)
نميلُ في تقييمِ ذواتِنا إلى روايةِ القصةِ على نحوٍ يُرضي “الأنا” ويحمي صورتَها. يظهرُ هذا التحيّزُ جليًا في اختباراتِ الثانويةِ العامة؛ فإذا كانتِ النتيجةُ جيدةً نسبناها إلى جُهدِنا وسهرِنا وتعبِنا، أمّا إذا أخفقنا، فكثيرًا ما عزونا ذلكَ إلى صعوبةِ الأسئلة، أو خروجِها عنِ المنهاج، أو إلى أنَّ واضعَ الامتحانِ ليسَ من أهلِ الميدان.
ويتكررُ النمطُ ذاتُه في علاقاتِنا الإنسانيّة؛ فنرى أنفسَنا غالبًا ضحايا سوءِ فهمِ الآخرين، ونُرجِعُ تعثُّرَ العلاقةِ إلى تقصيرِ الطرفِ الآخرِ أو قسوتِه، بينما نادرًا ما نُسائلُ وضوحَنا، أو طريقةَ تواصلِنا، أو توقّعاتِنا غيرِ المُعلَنة. يُعرَفُ هذا المَيلُ في علمِ النفسِ باسم “التحيّز لمصلحة الذات”، حيثُ يُنسَبُ النجاحُ إلى الداخل، ويُدفَعُ الفشلُ إلى الخارج، حمايةً لصورةِ الذاتِ من التصدُّع.
ولا يكونُ تجاوزُ هذا التحيّزِ بِجَلدِ الذاتِ أو إنكارِ الجُهد، بل بتعلُّمِ تفكيكِ الروايةِ التي نحكي بها قصصَنا الشخصيّة: ما الذي كانَ لنا فيهِ يدٌ حقًا؟ وما الذي كانَ ثمرةَ ظرفٍ، أو دعمٍ، أو توفيق؟ وقد لفتَ القرآنُ الكريمُ النظرَ إلى هذا المَيلِ الإنسانيّ حينَ فرّقَ بينَ مَن ينسبُ الخيرَ إلى نفسِه، ومَن يُرجِعُ الخطأَ إلى غيرِه، وبلغَ هذا المنطقُ ذروتهُ في قولِ قارون: “إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي”، حيثُ يتحولُ النجاحُ من اختبارٍ أخلاقيٍّ إلى شهادةِ استحقاقٍ ذاتيّ.
ولعلَّ قدرًا من التواضعِ الواعي، والاستعدادَ لسماعِ رأيِ صديقٍ صادقٍ ــأو حتى خصمٍ لا يُجامِل ــ هو ما يُعينُنا على رؤيةِ أنفسِنا كما نحن، لا كما نُحِبُّ أن نكون.
حظُّ المبتدئ (Beginner’s luck)
كثيرًا ما نسمع، عندَ أوّلِ نجاحٍ غيرِ متوقَّع: “إنهُ حظُّ المبتدئين”. يُزهرُ هذا المفهومُ في أذهانِنا كزهرةٍ غريبةٍ تتفتّحُ فجأةً في تربةٍ غيرِ مُعَدّة؛ ظرفٌ استثنائيٌّ يُحالِفُ الوافدَ الجديدَ إلى عالمٍ ما ــ لعبة، أو حِرفة، أو مغامرة ــ فيمنحُه نجاحًا مدهشًا، كأنَّ الكونَ يُقَدِّمُ له هديةً ترحيبيّةً مُغريَة.
غيرَ أنَّ هذهِ الهديةَ تكون، في كثيرٍ من الأحيان، مُحاطةً بالوَهم؛ إذ تُغري صاحبَها بالاعتقادِ أنَّ القوانينَ الصارمةَ لذلكَ العالمِ قد توقفتْ من أجلِه، فيندفعُ إلى المخاطرةِ بكلِّ شيءٍ سعيًا وراءَ تكرارِ المعجزةِ الأولى، ليكتشفَ لاحقًا أنها لم تكن قاعدةً، بل استثناءً عابرًا.
مثالٌ أدبيّ: ملكةُ البستوني
يُجسِّد ألكسندر بوشكين هذه المفارقة ببلاغةٍ في رائعتِه ملكة البستوني. يظهر “حظّ المبتدئ” حين يسمع هيرمان، الضابط العقلاني الذي لا يُقامر عادةً، بسرّ الكونتيسة العجوز: ثلاث أوراق ــ الثلاثة، السبعة، والآس ــ يُقال إنها تضمن الفوز.
يتجلّى هذا الحظّ هنا كطُعمٍ لا كمعجزة؛ فبعد أن يحصل هيرمان على السر، ينجح فعلًا في الفوز في الليلتين الأوليين مستخدمًا “الثلاثة” ثم “السبعة”. نجاحان متتاليان، كافيان ليُغريا باليقين ويُعَمِّيا البصيرة، فيتوهم أنه روّض الصدفة وأمسك بمنطقها.
لكن في الليلة الحاسمة، وحين يلقي بكل ثقله واثقًا من “الآس”، تحدث الصدمة: الورقة التي بيده لم تكن الآس، بل “ملكة البستوني”، حضورٌ ساخر كأن الاحتمال نفسه يسخر من ثقةٍ بُنيت على نجاحٍ ناقص.
يخسر هيرمان عقلَه قبل ماله، وينتهي به المطاف في المصحّ. هكذا يحوّل بوشكين زهرة “حظّ المبتدئ” إلى فخٍّ إدراكيّ: نجاحٌ مبكّر يُساء تفسيره بوصفه قاعدة، فيقود حتى الأكثر حذرًا إلى الانهيار.
إهمالُ الاحتمالِ
والانحيازُ إلى انعدامِ الخطر
تتلاقى كثيرٌ من هذهِ الأوهامِ في مَيلٍ إنسانيٍّ شائع: تجاهُلِ احتمالِ وقوعِ الحدث، والبحثِ بدلًا من ذلكَ عن فعلٍ يمنحُنا شعورًا بأنَّ الخطرَ قد اختفى تمامًا. يُعرَفُ هذا المَيلُ في علمِ النفسِ المعرفيّ باسم “إهمال الاحتمال” (neglect of probability)، حيثُ لا نسأل: “ما مدى احتمالِ أن يحدثَ الضرر؟”، بل نتصرّفُ كما لو أنَّ الخطرَ إمّا موجودٌ كليًا أو معدومٌ كليًا.
ومن هنا ينشأُ “الانحيازُ إلى انعدامِ الخطر” (zero-risk bias)، أي تفضيلُ أيِّ إجراءٍ يبدو “خاليًا من الخطر” حتى لو كانَ تأثيرُه الواقعيُّ محدودًا أو غيرَ متناسبٍ مع حجمِ الخطرِ الحقيقيّ. لذلكَ نحملُ مظلّةً في يومٍ احتمالُ المطرِ فيهِ ضعيف، لا لأنَّ البللَ مُرَجَّح، بل لأنَّ المظلةَ تمنحُنا راحةً نفسيةً بإلغاءِ الاحتمالِ تمامًا. ونضعُ الكِمامةَ أحيانًا بوصفِها ضمانًا مُطلقًا، لا كوسيلةٍ تُقَلِّلُ الخطرَ فحسب، فنُصابُ بالدهشةِ إذا وقعَ ما كنّا نعتقدُ أننا ألغيناه.
ويظهرُ المنطقُ ذاتُه حينَ يشعرُ بعضُ الناسِ بالأمانِ لمجرّدِ أنهم يتناولونَ منتجاتٍ غذائيةً موصوفةً بأنها “خاليةٌ من الموادِّ الكيميائية” أو “طبيعيّة 100%”، فيتعاملونَ معها بوصفِها خاليةً من الخطرِ ولا سببَ للمرضِ معها. ما يُتَجَاهَلُ هنا هو أنَّ احتمالَ الإصابةِ لا يصبحُ صفرًا، لأنَّ الصحةَ تتأثرُ بعواملَ أخرى كثيرة: نمطُ الحياة، الوراثة، التلوّث، التوتر، أو حتى الإفراطُ في الاستهلاكِ نفسِه. فالانحيازُ لا يبحثُ عن تقليلِ الخطرِ بواقعيّة، بل عن طمأنينةٍ سريعة، حتى لو قامتْ على وهمِ “الصفر” الذي لا وجودَ لهُ في الحياة.
خاتمة
ما سبقَ ليسَ جردًا كاملًا لأخطاءِ التفكيرِ ولا محاولةً لحصرِها، فالعقلُ الإنسانيُّ أكثرُ تعقيدًا من أن تُختَزَلَ انحرافاتُه في مقالٍ واحد. هذهِ مجردُ نماذجَ شائعة، نعيشُها يوميًا دونَ أن ننتبه، ونُسمّيها حظًا أو قدرًا أو “يوم سيء”، بينما هي في كثيرٍ من الأحيانِ طرقٌ ملتويةٌ يفكّرُ بها العقلُ حينَ يبحثُ عن الطمأنينةِ لا عن الحقيقة.
ولِمَن يرغبُ في التعمُّقِ أكثر، فثمةَ كتبٌ تناولتْ هذهِ الانحيازات بتفصيلٍ أوسع، من بينِها كتاب ” فنّ التفكير بوضوح” (The Art of Thinking Clearly) للكاتب رولف دوبلي (Rolf Dobelli)، الذي يُقدِّمُ خريطةً أوسعَ لأخطاءِ التفكيرِ الشائعة، لا بوصفِها عيوبًا أخلاقيّة، بل كسماتٍ إنسانيةٍ يمكنُ الانتباهُ إليها والتخفّفُ من أثرِها.
أمّا المقال، فوظيفتهُ أن يفتحَ نافذة، لا أن يبنيَ متحفًا كاملًا للعقلِ البشريّ؛ نافذةً قد تكفي أحيانًا ليدخلَ منها بعضُ الضوء.
سعيد ذياب سليم


الكمال هي اللحظة حيث يتزامن ما يمكننا فعله وما نريد فعله مع ما يتعيّن علينا القيام به.
الإنسان لا يحب بل ينشد ملاذاً في الحب، هو لا يأمل بل يطلب ملجأً في الأمل، لا يؤمن (ربما) بل يبحث عن مأوى في عقيدة ما.
ما اقصد قوله هو أن كثير من اختباراتنا او قراراتنا مبنية على دخول كهف الأمان الذي يحمينا من الوحوش في الخارج، نتخذ قراراتنا وبعض قناعتنا لانه تؤمن لنا هذا الاحساس من الأمن، ولا نرغب بالتغيير خوفا من ان نفقد هذا الأمان.
وكما قال فرويد: كل ما نقوله او نفعله او حتى نعتقده (برأي فرويد) هو اما للحصول على اللذة او لتجنب الألم.