« خديجة رضي الله عنها » / إبراهيم العسعس

إنَّه محمد… وهل يَخْفَى عليَّ ؟! لكنَّ قلقاً واضحاً يبدو على مُحيَّاهُ. فهذا الوجهُ الحبيبُ ليس نفسَ الوجهِ الذي غادَرني إلى الجبل قبلَ أيام! إنَّ الخوفَ يملأُ نفسَهُ، وهذه ليست عادتُهُ، فليسَ أيُّ شئٍ يهزُّهُ ويُغيره. …. هكذا قالت خديجةُ في نفسِها عندما لَمحتْهُ عند الباب.
ولكنْ خلفَ هذا الخوفِ الذي يظهرُ على وجهِهِ، أرى فيه شيئاً لم أكن أراه من قبلُ ؛ نوراً على جبينهِ، بريقاً في عينيه،إنَّها تلكَ اللمحةُ التي كان يُحدِّثُـني عنها ابنُ عمي ؛ ورقةُ بنُ نوفل، كيف تكون على وجوهِ من يُسمِّيهم أنبياء والذين يَعرِفُهُمْ من كتابِهِ المُقدَّس …. كانت هناك طُمأنينةٌ تــلوحُ خلفَ هذه الرهبةِ … أكملتْ خديجةُ في نفسِها.
عند الباب، وفي نفسِ اللحظةِ التي رآها فيها، كان لا يزالُ يُفكرُ:هل أقولُ أم لا أقول عن تلك اللحظة ؟ أخشى ما أخشاهُ أن يُقال مجنونٌ، هل يُمكنُ أنْ تظنَّ بي زوجي الظُّنون ؟!
لعلها أطولُ لحظةٍ في حياة محمد ……
ما إن رأيتُه يتقدَّم نحوي حتى عرفتُ بأنَّ حدثاً هائلاً.. هائلاً قد حَدَثَ .. فأنا أعرفُهُ منذ خمسةَ عشرَ عاماً، أعرفُ حُزنَهُ، فرَحَهُ، قلقَهُ، أعرفُ كلَّ خلجاتِ نفسِهِ …
وفي لحظةِ ما بينَ رُؤيتي له وبين بَدْئِهِ في الكلام كنتُ قد قرَّرتُ في نفسي أنَّ أيَّ شئٍ سيقولُهُ لي … سأكون كأنَّني التي رأتْ وسمِعَتْ… وفي تلك اللحظةِ القصيرةِ قررتُ أن تبدو هذه الطمأنينة على وجهي كي تنتقل إليه …
وفي تلك اللحظة عندما رأيتُ وجهَهَا المُطمئن .. قررتُ أن أخبرَها الخبرَ ….
لعلَّ هذا الحديثَ قد حصلَ في نفسِ كلٍّ منهما، ونحن بتوقعنا له نزيدُ الموقفَ إضاءةً إنْ لم تنفعْ فإنَّها لن تَضرَّ، ولن نكونَ بها مِمَّن يَكْذِبُ على نبيهِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه.
إنَّ انتصارَ خديجةَ في لحظةٍ ليسَ من السهلِ أنْ تـنتصرَ فيها المرأةُ على أُنوثـتها ؛ على كونها زوجةً تُطالِبُ بحقِّها، وقد تَـنْهَى زوجَها عمَّا يظهرُ لها أنَّه عبثٌ، أو إنسحابٌ من الحياة لا مُسوِّغَ له على حِسابِ الأهلِ والولدِ … هذه اللحظةُ هي أولُ انتصارٍ للدعوةِ الإسلاميةِ وأهمُّ انتصارٍ، ما كانَ لانتصارِ بدرٍ وما بعدَهُ أن يَتحقَّقَ!
وبعظمةٍ، بل وبكلِّ العظمةِ، تَضمُّهُ في قلبِها، وتُـدفئهُ بعقـلها، وفي لحظةٍ تستحضرُ كلَّ خصائصِ زوجِها الواقفِ أمامَها يرتجِفُ، وبسرعةٍ وببلاغةٍ تُـدثِّرُهُ بها، وتـلقيها عليه « .. واللهِ ما يُخزيكَ اللهُ أبداً إنَّكَ لتَصِلُ الرَّحِمَ وتَحْمِلُ الكَلَّ وتَكْسِبُ المَعْدُومَ وتَقْرِي الضيفَ وتُعِينُ على نَوائبِ الحقِّ … «، فأيُّ عظمةٍ هذه، أوَ ليست هذه الكلماتُ هي التي أدفْأتهُ على الحقيقة ؟! أوليسَ لو لم تقلها لما أدفأه كل ما في الأرض من دِثَارٍ؟! لكن ما لا ينتهي منه العجبُ هو هذه البديهةُ وهذه البلاغةُ، وهذه السرعةُ، وكأنَّها أُلْقِيَ إليها أن استعدي سيأتي زوجُك بكذا وكذا فقولي له كذا وكذا، وكأنَّهُ إلهامٌ كإلهامِ أمِّ موسى إذ قِـيل لها ألقيهِ، أمَّا هي فقد قِيلَ لها ضُمِّيهِ وثبتيهِ، فأنتِ الملجأُ الذي إنْ خذلتِهِ فلا مَلجأ غيرُكِ له، وأنتِ السندُ الذي إنْ كَــبَا، فعلى من يتكيء ؟ الكونُ كلُّهُ ينتظرُ كلماتِكِ، والخلقُ كلُّهم _ مَن خُلِقَ ومن ليس بعدُ _ مُعلَّقونَ بكلماتك.
ما الذي فَعلتْهُ خديجةُ رضي الله عنها لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفيه ؟ ما الذي رآه فيها ولم يَرَهُ في غيرها ؟ ما الذي يُخلِّدُ المرأةَ فيجعلُها تعيشُ أبداً في قلبِ هذا الذي عرَفَها ؟
لقد بقيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَذكُرها، ويُكْرِمُ ذِكراها، ويُحْسِنُ إلى كلِّ مَن يَمُتُّ لها بِصِلَةٍ .. لقد عاشت أبداً في قلبهِ .. لم يكن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغضبُ لأيِّ شيءٍ، والمراتُ التي غضبَ فيها معدودة، منها مرةٌ لأجلِ خديجةَ رضي اللهُ عنها !! كان ذلك بعد سنوات طويلةٍ من وفاتها ! فقد ذكرتْهَا عائشةُ رضي الله عنها بما اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءً، فغضب غضباً شديداً، فآلتْ على نفسِها ألا تذكرَها بعد ذلك بسوءٍ! فعَنْعائشةَ رضي الله عنها، قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ،أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ،قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًاً، فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ : « مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» . إذن هي أسبابٌ لا تقتصرُ على تلك العلاقةِ التقليديةِ بين الرجلِ وبين زوجِهِ، فمثل هذه العلاقة قد تُـنسيها علاقةٌ أخرى، إنَّها علاقةٌ بين رجلٍ وبين أكثر من زوجة ؛ فهي أول إيمان، وأول إيمانٌ صعبٌ لأنَّه بلا نمُوذَج، بل إنَّه هو النَّموذَج، وهي تصديقٌ حيثُ الكلُّ مُكذِّبٌ، ويا لله كم هو قاسٍ هذا التصديقُ، وهي عطاءٌ بلا حدود، عظمتُهُ أنَّه لا يَتبَعُهُ مَنٌّ ولا أذى . هنا يكمنُ سِحرُها، وبهذا استحقت أن تكون الشخصَ الذي لا يُنْسَى، وهنا يكمُنُ سِحْرُها . وقبل هذا اختصَّتْ بأمرٍ لم يُشاركْهِا فيه غيرُها، فأيُّ عظمةٍ في أن يُرسِلَ ربُّ العالمين رسولَ السماءِ إلى رسولِ الأرض ليقولَ له : « يا رسولَ اللهِ، هذه خديجةُ قد أتتْ معها إناءٌ فيه إدامٌ، فإذا هي أتتكَ فاقرأ عليها السلامَ من ربِّها ومِنِّي،وبَشِّرْهَا ببيتٍ في الجنَّةِ من قّصَبٍ،لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب «. لقد كافأها اللهُ سبحانه من جِنْسِ عملِها، فهي في بيتٍ، لأنَّها بمجردِ إسلامها صارت أولَ ربَّةِ بيتٍ في الإسلام « فلم يكن على وجه الأرضِ في أول يوم بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيتُ إسلامٍ إلا بيتها «. وهو بلا صَخَبٍ ولا نَصَبٍ لأنَّهُ لمَّا دعا صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام «أجابت خديجةُ طوعاً، فلم تُحْوِجْهُ إلى رَفعِ صوتٍ ولا مُنازَعَةٍ ولا تعبٍ في ذلك، بل أزالت عنه كلَّ نَصَبٍ، وآنستهُ مِنْ كلِّ وَحْشَةٍ، وهوَّنَتْ عليه كلَّ عسير، فناسَبَ أن يكون منزِلُها الذي بشَّرها به ربُّها بالصفة المقابلةِ لِفعْلِها « رضي الله عنها.

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة