دعوى الحق في التحرر من الأحكام الشرعية // عز الدين مصطفى جلولي

تظهر في كل عصر من العصور الإسلامية أطروحة فكرية كبرى تشغل الحياة العقلية والدينية للناس، تسمى نازلة أو حادثة أو بدعة أو شبهة أو فتنة… فينبري لها العلماء الفطاحل يدرسونها ويمحصونها حتى ينتهي بهم الحال إلى استيعابها بعد طول استغلاق. قد يطول الزمن في ذلك أو يقصر، بقدر ما تثيره النازلة في العقل المسلم من تحد وتعقيد؛ فمن المشكلات ما دام سنوات، ومنها ما بقي قرونا يصارع الإيمان والعقل إلى أن هدأ بالفهم، ومنها ما لا يزال يثري الفكر بمزيد من التفكير والبحث؛ في مقصدين إلهيين ذوي صلة بالحكمة من الوجود البشري: اختبار الأمة فيما هي عليه من إيمان يتطلب اليقين الذي لا يخالطه شك. واستثارة العقل، الذي هو أعجب ما خلق الباري، ليقوم بوظيفته في فقه ما أنزل الكبير المتعالي.

من ذلك الشأن مثلا قضية «الخلافة والملك» في السياسة الشرعية، وفتنة الوضع في الأحاديث النبوية، وبدعة «خلق القرآن» في علم الكلام، والشبهة فيما تسرب إلى الطرق الصوفية من الفلسفات الشرقية إبان نشأتها الأولى، ومسألة التعامل مع الفكر اليوناني واللاتيني في عصر الترجمة، والحيرة من الجدل المزمن بين المذاهب العقدية، والفصل في مشروعية المدارس الفقهية غير التقليدية… وما إلى ذلكم من نوازل علمية صاغت العقل الجمعي للمسلمين، وأغنت التراث الإنساني بمباحث شيقة، رافقتها حركة تدوين نشطة حفظت للبشرية زادا من المعرفة راقيا.

أزمات فكرية ولدت منهجا فاعلا

ومهما قيل في النتائج التي تمخضت عنها تلك المحطات سلبا أو إيجابا، فإن منهجا عقليا أسهم في تشكيله العلماء الراسخين في الإسلام من خلال استقراء دقيق لميراث النبوة وخبرة عميقة بمعالجة قضايا الإنسان، أجمع العلماء على فاعليته في التعامل مع كل مستجد يواجه البشرية في مشوارها نحو الفناء، ومهروه بمشروعية عصمت المسلم من الزلل في القول والعمل، وضبطت حرية تفكيره كي لا تشتط به فيخترق حدود المعقول في المفهوم، عرف عند الفقهاء بمنهج استنباط الأحكام الشرعية، أدرجت مباحثه في علم أصول الفقه الإسلامي.

إن من يحق له الفهم وفق المنظور الإسلامي البحت، هم أولئك الذين استكملوا العلم بأدوات البحث الشرعية، من علوم العربية والحديث وأصول الفقه وزاد بعضهم المنطق، ليتسنى لهم النظر لاحقا في أفعال العباد المكلفين ووسمها بالحكم المناسب لها، والاشتغال بالخطاب الإلهي والنبوي شرحا وتحليلا بمنهج تبلورت مباحثه تحت عباءة ذلك الخطاب نفسه؛ لذلكم نجد الاستدلال بالقرآن الكريم والحديث الشريف على شرعية المنهج ومخرجاته في كل جزئية من جزئياته تقريبا، وقلما تشذ القاعدة. وهذه السمة، سمة الاستدلال، ملازمة للمنهج لا تكاد تفارقه، بخلاف مناهج النظر المستحدثة خارج هذه الدائرة الشرعية، فهي تفتقر كلية للتدليل، فتعمد إلى التهافت على الموروث وإطلاق العنان لحرية التفكير بلا ضوابط غالبا، وإن وجدت فهي تخالف ما عليه إجماع الأمة من لدن النبوة وإلى اليوم؛ وتلكم هي نازلة العصر الذي نحن فيه نعيش.

من نوازل العصر الحديث

تشكلت عقلية كثير من المثقفين المعاصرين بعيدا على الجو الثقافي الذي ساد في القرون الهجرية الأولى وما تلاها، وأغلب هؤلاء المثقفين تخرج من مدارس غربية أو تدرج في أخرى علمانية، وبالتالي فحظه من العلوم الإسلامية لا يكاد يبين، إلا ما كان نزرا قليلا تناثر في مخياله لا يشكل بنية علمية ينظر المفكر من خلالها، أو قواعد منهجية قد تشبع بها ودرب على تطبيقها؛ ثم إنك تراه بعد ذلك ينظر إلى الحياة العامة لأمته فيصدم بما يرى، فلا تنجده ثقافته التي اكتسبها بعيدا عن المعارف الإسلامية ليفهم واقعه أو يبحث فيه، فيمتطي ساعتذاك جوادا ويمتشق معولا ويشرع في الهدم والتنظير لخلاف ما يرى؛ فيقع في المحذور، بأن يعير قومه بما هم فيه من تخلف وجمود، وينادي عليهم بمناهج أخرى فلا يجد لمناداته رجع صدى، فتقع إذاك القطيعة الفكرية بينه وبين مجتمعه.

لا ألتمس لهؤلاء الغرباء عذرا إذا ما جهلوا الأسس التي يزن بها مجتمعهم المسلم- فقهاء وعامة- الأحكام التكليفية، أو إذا ما عرفوها ولكنهم عدموا الإيمان بها أصلا، فكل شاة من رجلها معلقة. بيد أن المسؤولية الأخلاقية والتشريعية في كلا الحالين واقعة على عاتق هؤلاء النخبويين إذا ما قارعوا جهارا الثقافة الاجتماعية وخدشوا في مسلماتها، وليسوا بذلك الأمر أحرارا كما يتوهمون، وسيأتي بيان ذلك بعد حين.

في ما يقوله المتحررون «شبهة حق»

إنها شهادة أعلنها لله عز وجل، إن في بعض ما يقوله دعاة التحرر من الأحكام الشرعية شبهة حق، تأتت من شيئين: اضطراب الاجتهاد الفقهي لقلة رسوخ من يتصدى لذلك في العلم، فيتجرأ بعضهم على الفضاء الإعلامي والرقمي فيملأه بفتاوى خاطئة، أو غير ناضجة بما يكفي لتعميمها على كل البقاع والعباد؛ فتغدو فتاواه مدعاة للسخرية منها والاستهزاء بها، ما يستدعي تاليا النكير عليها. إن هؤلاء المتصدرين للإفتاء يفترون على الإسلام، وإن حسابهم على الله لعسير. أما الشيء الآخر فذو خطر بليغ، أعني به تدخل السياسة، بمعناها الوضعي لا الشرعي، في الاجتهاد الفقهي، فحرفت منهجه وجيرت نتائجه لما يخدم غاياتها السيئة، وأعظم بالسياسة جرما إن كانت علمانية تريد بالإسلام شرا! فحين ذاك حدث ولا حرج عن المخالفات الشرعية والأحكام الباطلة؛ وحق لمن يرى ذلك أن يعيب على السياسي والسفيه، ويدعو إلى التحرر من الحاكم والفقيه.

لا يتقبل المجتمع المسلم الطعن في دينه، ولا علاقة لذلك بسقف الحرية كما يقول البعض مقارنا بالمجتمع الغربي، الذي فصل الدين عن السياسة وعن الدنيا معا، وأتاح للفكر أن يقارب كل شيء تقريبا يخص الأديان، ومنعه من الاقتراب كثيرا مما أصبح عليه من معتقدات مادية ضاهت قداستها قداسة الدين نفسه، فكأني به استبدل دينا بآخر جديد؛ فحرم التشكيك في المحرقة اليهودية مثلا، وضيق على الدعوة إلى الإسلام في أوروبا ولو بالديمقراطية، وصادر الحق في تسويق الأطروحات اليمينية، ومنع الحديث عن العودة إلى تعاليم الكنيسة وإلغاء العلمانية، وغير ذلك كثير مما يحظر التفكير به وتقيّد حرية الجدل فيه؛ فلكل مجتمع إذن ضوابطه التي تحمي نظامه العام، وللمجتمع المسلم نظامه العام كذلك؛ من هنا يجرم فعل الدعوة المطلقة إلى التحرر من الأحكام الشرعية، ولو تلبست بلبوس الفكر والحق العام.

الحاكم المسلم يحمي الأمة من الفكر الدخيل

لم يكن يسمح في تاريخ الحكم عند المسلمين بتحدي الثوابت التي قام عليها المجتمع، لذلك يندر أن تجد من يتجرأ على البوح بطرح معاد للقيم السائدة، لأن الحاكم كان يتحلى بواجب الحفاظ على الدين وكان الفقهاء الكبار من حوله ملاصقين يبصرونه. أما في عصرنا الحالي، فقد كثر المنجمون والمتحدثون بكل ما لا يرضى من القول، كما أن الحاكم بأمره تخلى عن مهام كثيرة منوطة به خيانة لأمته وجهلا بالدين، مستبعدا من حاشيته العلماء الذين يردون الناس إلى الفهم الصحيح، ويقفون في وجه كل مفكر ضل السبيل.

إن معنى كونك مسلما أن تكون حياتك وموتك وكل أفعالك لله ووفق الخطاب المنزل على نبي الإسلام. وما كان لأحد أن يكون حرا في الارتداد عن ذلك بعدما آمن، وإلا فقد شرع في الهدم الذي لا يقبله أي نظام عام يتهدده خطر. إن خطل أدعياء الحرية الدينية عندنا بيّن ومرجعه إلى الخواء العلمي الذي يحملون، وربما أيضا إلى النوايا غير الطيبة التي يستبطنون، عن عقيدة أمتهم وشرعها الحنيف؛ لذلك وقعوا في فتنة مضلة هم عنها إلى اليوم عمون: بريق حرية آخذ بالأبصار، وتهافت غير مسبوق على ثقافة الأغيار.

– كاتب جزائري

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة