ذكرياتي في يوم استشهاد عمي الطيار فراس العجلوني

بقلم

المقدم الركن المهندس المتقاعد

”محمد علي” زهير العجلوني

5 حزيران 2021

=====================

 

ما دعاني للكتابة في ذكري استشهاد عمي المرحوم الشهيد الطيار فراس محمد علي العجلوني ثلاث محطات مفصلية في تاريخ الأردن: أولها هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا وهي الاحتفال بمئوية تأسيس الدولة الأردنية على يد الملك المؤسس طيب الله تراه عبد الله الأول. وثانيهما عيد الاستقلال الخامس والسبعين، والثالثة هي ذكرى استشهاد عمي في حرب حزيران ١٩٦٧ وما تحمله هذه الذكرى من ذكريات الطفولة البريئة كشاهد على العصر.  حيث لم يتوانى الأردن عن تلبية نداء الواجب بعزيمة القيادة الهاشمية والرجال الرجال من قواتنا الأردنية المسلحة وسلاح الجو الملكي الأردني قاتل الأردنيون بكل عزيمة وتفان وإخلاص. وودت حقيقة ان أسجل للتاريخ الذي سطره الأردن بشهداء أبنائه دفاعاً عن فلسطين ودفاعاً عن الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

 

عودنا والدي زهير العجلوني رحمه الله أن يأخذني و أخي الأصغر “يسار” لقضاء بضعة أيام في منزل جدي المرحوم “محمد على العجلوني” و جدتي، رحمهما الله، في مدينة أريحا بعد انتهاء السنة الدراسية و ابتداء العطلة الصيفية من كل عام . فكان يقلنا بسيارته من نوع “أستن” كحلية اللون، وبصحبة والدتي، أطال الله في عمرها، ويتركانا هناك ثم يعودا بعد أن تنقضي المدة التي تتعدى قدرة تحمل وصبر جدتي على شقاوتي وشقاوة أخي، حيث نعود ادراجنا الى عمان.

 

وهذا ما حدث في نهاية شهر أيار من عام ١٩٦٧ حيث انتهت السنة الدراسية وكنت قد أنهيت الصف الثاني الابتدائي وأخي يسار قد أنهى الصف الأول الابتدائي.  أوصلنا والدي الى أريحا ثم تركنا لنمضي الأيام التي كنا نحلم بها في بيت الجد والجدة في أريحا، الا أننا لم نعلم أن هذه الزيارة كانت هي الأخيرة.

 

سكن جدي “محمد علي العجلوني” في أريحا منذ عام ١٩٦٣ حيث كان يقضي فيها فصل الشتاء من كل عام. استأجر ثم تملك بيتا في عام ١٩٦٥. كان بيت جدي ” أبو زهير ” وجدتي ” أم زهير” بيت العائلة يجتمع فيه والدي وأعمامي في كل مناسبة تسنح لهم للتواجد هناك. وكان البيت في منطقة قريبة من الاستراحات السياحية وأذكر أنه كان ينساب من أمام البيت قنوات المياه لري البيارات القريبة. وكان جدي يقضي وقته في مقهى قريب من المنزل في فترتين صباحية ومسائية من كل يوم. وكان يصحبني وأخي يسار أحيانا الى المقهى حيث كنا نجد فيها مساحة للعب والجري ونطفئ عطشنا بتناول مشروبنا المفضل ” الكازوز”.

 

وكنا نمضي أوقاتا مع جدتي كانت تأخذنا معها عند زيارتها للأصدقاء وأحيانا إلى مدن خارج أريحا.  منها رحلة في الباص إلى رام الله، وأخرى الى القدس الشريف حيث اشترت لي ولأخي يسار ملابس جديدة. لا أذكر من المدينتين الا طيفا. أحمد الله أنه كتب لي أن أزور القدس الشريف وأنا في السادسة من عمري وأدعو القوي الجبار أن يكتب لي أن أزورها مرة أخرى عربية أبية محررة.

 

لا أذكر تماما مجريات الأحداث في صبيحة يوم ٥ حزيران، ولكني لا أنسى صورة جدي منفعلا وهائجا وحاملا رشاشه ” البور سعيد” حيث جرى بينه وبين جدتي نقاشا أسفر عن حبسي أنا وأخي داخل خزانة في بيت الدرج من شدة خوفه علينا وحرصه على سلامتنا. الا أن احتجاجات جدتي الصاخبة نجحت في إطلاق سراحنا من خزانة بيت الدرج لنمضي بقية اليوم قابعين دون حراك في احدى زوايا البيت.

 

أنا في حينها كنت صغيرا كي أدرك الأمور على حقيقتها الا أن ذكرياتها ما زالت محفورة في عقلي وقلبي. وكلما أستذكر تلك الأيام أعيد صورة المقاتل البطل محمد علي العجلوني يحمل سلاحه وهو في السبعين من عمره ليذود عن بيته وزوجته وأحفاده وأنا متأكد أن قوته عادت إليه في ذلك اليوم كما كانت قوته في ميسلون.

 

لا أذكر أنني غفوت في تلك الليلة لحظة واحدة. كنت خائفا وأنا أسمع جدي يتكلم عن الحرب وعن القصف الجوي وأنا أسمع ما ذا يقول ولم أدر مع من كان يتحدث ولم أدرك ماذا كان يحصل حولنا فكان ممنوع علينا الخروج من الغرفة. وكانت تلك الليلة الحالكة التي أتذكر فيها أنني سمعت أصواتا مخيفة في الخارج تخللها هدير صوت جدي بين حين وآخر. وكانت جدتي تحاول أن تهدئ من روعنا الا أنني وأخي يسار لمسنا خوفها وقلقها.

 

في صباح اليوم التالي الموافق ٦ حزيران ١٩٦٧ وصل الى بيت جدي زائر أتذكر شكله تماما. كان متوسط القامة، شديد السمرة، وكان يرتدي زي الأمن العام، كان من الواضح أنه في عجلة من أمره اذ أنني أذكر الحديث الذي جرى بينه وبين جدي مطالبا جدي بالعودة فورا الى عمان. جدي رفض العودة رفضا قاطعا وعلا صوته، الا أن الزائر أصر على طلبه وقال إن لديه تعليمات بإعادتنا جميعا إلى عمان فورا.

 

لم تمر لحظات الا وجدتي تطلب مني ومن أخي يسار ارتداء ملابس السفر و قامت بتجهيز حقائب السفر و قام الزائر بمساعدة جدي في وضع الحقائب في السيارة التي حضر بها ، و كانت من نوع “رينو” فاتحة اللون. جلس جدي في المقعد الأمامي ومعه رشاشه وجلست أنا و يسار بجانب جدتي في المقعد الخلفي وبدأت رحلة العودة الى عمان.

 

لا أذكر تفاصيل الرحلة كثيرا ولكن أذكر أننا توقفنا عدة مرات، وأذكر أنني شاهدت مجموعات من الناس متجمعة على طرفي الطريق.

 

وصلنا الى بيت العائلة في عمان في جبل اللويبدة بعد الظهر و عند اقترابنا من المنزل كان هناك عدد كبير من السيارات مصطفة على جانبي الشارع و على طول امتداده فتعرفت على بعض السيارات التي كانت تعود لأصدقاء والدي فتوجهت الى يسار و قلت له ببراءة الأطفال: ” يبدو أن عندنا عزيمة اليوم .”

 

و ما إن توقفت السيارة على مدخل البيت و ترجل جدي من السيارة، اقترب منه أحد أصدقاء العائلة لا أعرف من هو، و قال لجدي:” يسلم راسك عمي أبو زهير ،  فراس استشهد“.

 

 

أتوقف هنا.

 

رحم الله جدي محمد علي العجلوني الذي افتخر بأنه منحني اسمه يوم ولادتي، ورحم الله جدتي أم زهير، ووالدي زهير، وعمي مازن، و عمي الشهيد فراس، و عمي عصام ،  و أطال الله في عمر عمي يزن “أبو علي”  و أبقاه ذخرا و سنداً  لنا جميعاً.

 

ورحم الله شهداء الوطن ، و أقتبس قول جدي محمد على العجلوني رحمه الله: “و لست وحدي من افتقد فراساً ولا هو وحده من افتُقد … فقافلة الشهداء عبرت تلالنا وسهولنا وصحارينا، حياكم الله رفاق القافلة، وستخرج من شعبي الأردني قافلة إثر قافلة، حتى النصر.”

 

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة