ذوو أسبقيات يعظون في المقابر ويحتالون على أهالي متوفين وينشلونهم

بعيدا عن أعين الرقابة، وعلى مرأى من الجميع، متسولون وأصحاب أسبقيات، يمارسون الاحتيال على عائلات متوفين بزعم إيهامهم بأنهم “واعظو مقابر”، ومتدينون، يستغلون حزن تلك العائلات على من فقدوهم، وظروف الدفن، كل ذلك للحصول منهم على مبالغ مالية.
أفراد هذه الفئة، يتجولون في المقابر باحثين عن فرائسهم، بعد رصدهم لإعلانات النعي التي تنشر في الصحف، أو في وسائط التواصل، ثم يحددون ضحيتهم من العائلات المكلومة، بتحديد موقع دفن الميت، ومن دون أي رادع ديني أو قانوني أو أخلاقي أو إنساني، يرمون بشباكهم حول أصحاب العزاء، بلا خوف من المساءلة القانونية، في ظل غياب أي شكل من أشكال الرقابة الواضحة على المقابر، ليتموا مهمتهم الاحتيالية.
“الغد” جالت على المقابر الرئيسة في عمان (سحاب- شفا بدران- أم الحيران) وعلى مدار أسبوع، لتكشف عن وجود أصحاب أسبقيات ينتحلون صفة الواعظين الدينيين، يتنقلون بين المقابر فور معرفتهم بوجود جنازة في هذه المقبرة أو تلك، ليلقوا مواعظ جاهزة مكررة في كل مرة، مقابل أجور مادية تحت غطاء الدين، يصطادون فيها المكلومين المضطرين، لإتمام إجراءات الجنازة دون معرفتهم بتفاصيل هذا العالم السفلي.
“الغد” كشفت في جولتها الميدانية طوال أسبوع، عن العشرات من ممتهني “الوعظ في المقابر”، ورصدت أساليبهم وطرق وعظهم الركيكة، في وقت تؤكد فيه وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، عدم مسؤوليتها عن أمثال هؤلاء “الواعظين”، وأيضا عدم علمها بما يرتكبونه من مزاعم وادعاءات، ملقية بهذه المسؤولية على وزارة التنمية الاجتماعية، لكنها أطلقت عليهم صفة “المتسولين”.
احتيال يبدأ من إعلان النعي
يتسبب هؤلاء المحتالون بمواقف محرجة أحيانا لأهل المتوفى، إذ يورطونهم بإقامة مآدب طعام للمعزين، ويروي بعض أهالي المتوفين ممن وقعوا في حبال هذه المجموعات، قصصا حول كيفية إقدام هؤلاء المحتالين، بعد انتهاء وعظهم عند القبور، ومراسم الدفن، دعوة المعزين المتحلقين حول القبر لتناول “غداء التربة”، دون سابق إنذار أو حتى علم أهل المتوفى، الأمر الذي يضع أهل بعض المتوفين في حالة إرباك، تضغط عليهم لإقامة مأدبة لم يحسبوا حسابها، ولا حساب أعداد المدعوين إليها.
يتكرر هذا المشهد في معظم المقابر الإسلامية، بعيدا عن أعين الرقابة والمتابعة لشؤون المقابر ومراسم الدفن، إذ تبدأ رحلة المحتال من إعلان النعي الذي ينشره ذوو المتوفى لمعرفة مكان ووقت الدفن، فـ”يصبح ذلك الإعلان، وسيلة للنصب والاحتيال على عائلة مكلومة جديدة”، وهكذا يستمر عملهم الاحتيالي دون حسيب أو رقيب.
إعلانات النعي ليست وحدها التي تغري المحتالين، وإنما رسائل النعي الإلكترونية، تلك التي يتبادلها رواد تطبيق “واتساب”، فقد رصد معد التحقيق، عشرات الرسائل التي يجري إرسالها ضمن مجموعة على “الواتساب” تضم 270 شخصا، تحمل اسما يوحي بأنها مجموعة ذات اهتمامات دينية، ولكن..
كيف يصطادون فرائسهم؟
تنتحل هذه الفئة من المحتالين، صفة “واعظ ديني مختص بإلقاء الخطبة ودعاء الدفن”، وتنتشر في مقابر مختلفة بالعاصمة عمان، وهم يختارون فرائسهم بحرفية، إذ يعتمدون على عدة أسس معينة لاصطيادها، منها موقع الصلاة ومكان الدفن (مقبرة خاصة) ومكان إقامة العزاء، حسب النعي المنشور في مجموعة “الواتساب”.
يوزع هؤلاء أنفسهم على المقابر حسب “الأحقية” وعدد الجنازات، فمن ألقى 3 خطب أمام المقابر في اليوم الواحد، يترك المجال لـ”زميله” في المهنة إلى اليوم التالي لإلقاء الخطبة نفسها على قاعدة “توزيع الحصص”، أو المهام.
“الغد” رصدت، العديد من قصص ومعاناة أشخاص تضرروا من مجموعات منتحلي صفة “واعظي المقابر”، إذ إن بعضهم عليه قيود أمنية (نشل وتسول)، وبعضهم ورط أهالي المتوفين بمبالغ مالية باهظة.
بعد أن دفن المواطن سليمان أيوب والده في مقبرة سحاب، خرج “منتحل” من المندسين بين المعزين، وتقدم لإلقاء موعظة دينية على أهل الميت ومن حضر معهم، وفور الانتهاء تفاجأ أيوب بدعوة وجهها “الواعظ” للجميع بتناول طعام الغداء عن روح والده.
هنا بدأت الحكاية، تبادل أهل الميت النظرات بينهم تحت سؤال: “من هذا”؟، فجاء الشخص إليهم ليهمس بإذن سليمان، “أعطيني 50 دينارا لو تكرمت”، فبادره سليمان بخجل، وقال له “تفضل 50 دينارا لكن من قال لك أننا بصدد إعداد طعام الغداء لقد أحرجتنا”.
مواقف محرجة ومبالغ يتكبدها المكلومون
أيوب يروي لـ”الغد”، تفاصيل الموقف الذي حصل معه، فـ”بعد الوصول إلى الديوان الذي حجزه لاستقبال المعزين فور الانتهاء من الدفن، تفاجأت بوجود أكثر من 400 شخص حضروا لتناول طعام الغداء، ليقوم كبير العائلة وعلى الفور بالتبرير للموجودين بأن الطعام سيتأخر قليلاً، الأمر الذي اضطرنا لشراء المناسف من 3 مطاعم على الفور”.
بعد الانتهاء من أيام العزاء الثلاثة، تواصل سليمان مع الشخص المنتحل صفة الشيخ الواعظ، ليتبين أنه يتردد باستمرار على المقابر، وفي كل مرة يفعل الفعل نفسه الذي قام به مع سليمان.
“الأوقاف”: لم نعين واعظي مقابر
وزارة الأوقاف، وعلى لسان ناطقها د. علي الدقاسمة، أكد عدم تعيين واعظين في المقابر، يتبعون للوزارة، ومن يعظون في المقابر متطوعون، وغالبا من أهل المتوفى، أو من أصدقائهم.
وبين الدقامسة لـ”الغد”، وجود واعظي دين تابعين للوزارة، يلتزمون بشروط الوزارة في عملهم منذ لحظة تعيينهم، بينما سواهم ممن يعظون عند المقابر، وهم ليسوا من كادر “الأوقاف”، تقع مراقبتهم على عاتق وزارة التنمية الاجتماعية.
بموازاة ذلك، يبدي إمام مسجد مقبرة سحاب الإسلامية أبو مصطفى لـ”الغد” امتعاضه الشديد، من وجود منتحلين لصفة “واعظ ديني” أو “واعظ مقابر” في مقبرة سحاب، لما يشكله فعل هؤلاء من تجاوزات وانتهاكات لخصوصية عائلات المتوفين، مشيرا إلى أن وجودهم، يُشكل إحراجا لأقارب وأصدقاء وأحباء المتوفين، خصوصا عند اقتحامهم عملية الدفن، والتقدم لإلقاء موعظة، دون أي مشورة من أحد.
“بيع الدين بمبلغ مادي”، بهذه العبارة وصف أبو مصطفى هؤلاء المنتحلين الذين قدّر وصول الدخل اليومي للواحد منهم بـ100 دينار، بحسب أعداد الجنازات في المقبرة، مؤكدا على وجودهم في مقبرة سحاب قبل صلاة الظهر وحتى بعد صلاة العصر وعلى نحو يومي ومستمر.
وزارة التنمية، أكدت على لسان مدير مكافحة التسول رياض عربيات، ضبط أشخاص ينتحلون صفة الواعظ في المقابر لغايات التسول، مشيراً إلى ازدياد تلك الحالات في الأعياد الرسمية الدينية.
غياب الرقابة.. وقيود أمنية بحقهم
“الحل عند المواطن، هو عدم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص المنتحلين تحت أي ظرف من الظروف”، بحسب عربيات، الذي عزا أسباب ازدياد هؤلاء في الأعياد، لتوافد الناس للدعاء وزيارة موتاهم في تلك المناسبات الدينية.
يؤكد عربيات، أنه خلال أول يوم من عيد الفطر الماضي ضبطت وزارة التنمية 28 شخصاً في مقبرتي سحاب وأم الحيران وحدهما بتهمة التسول في المقابر، وبينهم أشخاص من منتحلي صفة الواعظ.
بدورها كشفت “الغد” عن وجود قيود أمنية بحق أمثال هؤلاء، منها تسول ونشل، وهذا ما أكدته أمانة عمان الكبرى في ردها على استفسارات “الغد”.
وقالت الأمانة: إنه جرى الإبلاغ مؤخرا عن أشخاص ينتحلون صفة الواعظ في المقابر، وقد قبض عليهم من الجهات المختصة، وفي حال ورود أي شكوى بالخصوص من المراقب الموجود في مواقع الدفن، تجري مخاطبة مديرية مكافحة التسول على الفور”، لافتا إلى وجود عدد كبير من المخاطبات مسبقا بهذا الشأن.
في مقبرة سحاب حدثت مشاجرة بين أهل متوفى وشخص انتحل صفة “واعظ مقبرة” الشهر الماضي، ووصلت المشاجرة إلى مرحلة الاشتباك بالأيدي، ما دفع الموجودين إلى التدخل لفضها بعد أن وصلت إلى حد إشهار أدوات حادة في وجوه بعضهم، وذلك بسبب خلافهم حول الأجر المالي الذي طلبه منتحل صفة الواعظ وهو 50 دينارا، بحسب شقيق المتوفى يوسف الخطيب.
في مقبرة أم الحيران، وأثناء دفن متوفى، نشل منتحل صفة “واعظ مقبرة” ملبغا قدره 2100 دينار من جيب أحد أشقاء المتوفى، وفور الانتهاء من الدفن، ألقى موعظة دينية أمام المعزين، وفور الانتهاء من “الموعظة”، مد شقيق للمتوفى يده إلى جيبه لـ”يُكرم” ذلك المنتحل، ليتفاجأ بأن النقود ليست في جيبه، فأعلن أحد الموجودين في دفن المتوفى أمام الجميع، بأنه شاهد “الواعظ” ينشل شقيق المتوفى، فقبض المتجمعون عليه، وأجبروه على إخراج ما نشله من نقود، ومن ثم بلغ عنه، وحول إلى الأجهزة المعنية، بحسب مصدر أمني لـ”الغد”.
أمانة عمان تؤكد لـ”الغد”، عدم سماحها لأي شخص القيام بإلقاء مواعظ في المقابر المنضوية تحت الأمانة من قبل منتحلي صفة الواعظ، وعند ضبط أي من هؤلاء يُقدِم على مثل هذا الفعل، يخاطب على الفور الحاكم الإداري، كي يتخذ بحقه الإجراءات القانونية.
ويبلغ المعدل اليومي للدفن في المقابر من 20 إلى 22 جنازة، بحسب أمانة عمان، داعيةً أصحاب الجنائز بالتنسيق مع واعظ من قبلهم عند الدفن، لتلافي الوقوع في شرور أفعال منتحلي صفة الواعظ الحقيقي.
وكانت “الغد” كشفت في تحقيق استقصائي، نُشر في وقت سابق تحت عنوان “من داخل ثلاجات مستشفيات.. موتى يستنجدون: أغيثونا” عن وجود “مافيات” تسيطر على باحات أقسام الطب الشرعي في المستشفيات الحكومية والمقابر العاملة في عمان، وهي لا تملك أي تراخيص أو مؤهلات شرعية تسمح لها القيام بعملها.
وكشف مُعدّ التحقيق، عن قيام أشخاص من ذوي الأسبقيات، يحملون عليهم قيودا في تعاطي المخدرات والشروع بالقتل، بتغسيل وتكفين الموتى، بهدف الحصول على أجر مرتفع، دون وجود رقابة من أي جهة حكومية عليهم، تضع حدا لهذه الأعمال غير القانونية وغير الأخلاقية، إذ يستغل فيها أصحاب المصائب، في أوقات هم يكونون فيه بأمس الحاجة للتصبر على من فقدوهم.
حمزة دعنا/ الغد