ذوو الإعاقة ينسجون خيوط الإبداع ويقهرون “المستحيل”.. غانم المفتاح أنموذجا

لم يتحد إعاقته، بل عرف كيف يتعايش ويتصالح معها حين آمن بما لديه من عزيمة وثقة وأمل. غانم المفتاح ذلك الشاب الملهم الذي استطاع، بالصبر والتفاؤل والرضا، أن يلفت أنظار العالم إليه، بعد أن ظهر في حفل افتتاح كأس العالم 2022 في العاصمة القطرية الدوحة وهو يقرأ آيات من القرآن الكريم كسفير للمونديال، في مشهد هو الأول من نوعه، ويتابعه العالم أجمع.
برز اسم الشاب القطري غانم المفتاح باعتباره من الأسماء الملهمة والمؤثرة في قطر والعالم؛ حيث ولد في الخامس من أيار (مايو) 2002، ومنذ ولادته كان مصابا بمتلازمة نادرة جدا، وهي متلازمة التراجع الذيلي، وتعرف أيضا بالانحدار الذيلي، وهو اضطراب خلقي نادر يحدث نتيجة عدم تكون الجزء السفلي من العمود الفقري بشكل كامل قبل الولادة.
وبالإرادة والدعم، نجح المفتاح بأن يعيش الحياة شجاعا صلبا متقبلا لاختلافه الذي جعل منه شخصا قادرا ومسؤولا وفاعلا في مجتمعه وفي العالم ككل. ومن دون طرفيه السفليين، واصل الشاب القطري حياته متنقلا باستخدام يديه والكرسي المتحرك، وبدلا من أن يكون مثيرا للشفقة والعطف، استطاع أن يحصد إعجاب الكثيرين واحترامهم، وأصبح شخصية مؤثرة من خلال فيديوهاته على مواقع التواصل الاجتماعي التي تلقى اليوم دعما كبيرا من ملايين الشباب حول العالم.
درس واجتهد وتعلم، فلم تكن رحلته مع الإعاقة سهلة أبدا، لكن عرف كيف يقهر المستحيل بقوة إيمانه ودعم والديه وبلده له. غانم يعيش وضعا صحيا صعبا جدا لكنه يصر بعزيمته وابتسامته الواثقة أن يتعايش معها ويصبر، رغم مشكلات في التنفس والنوم والحركة وحتى الأكل تزداد كلما كبر، ورغم كل ذلك يبقى الأمل في داخله.
نجاح تلو الآخر، وسلسلة كبيرة من الإنجازات حققها غانم بطموحه وشغفه، هو تسلح بالصبر والإيمان، فاستحق أن يكون رمزا للقوة والنضال. صحيح قد تكون الإعاقة حرمته من أن يمارس حياته بشكل طبيعي كغيره، لكن تقبله لنفسه أولا ومن ثم دعم المحيطين له مكنه من أن يعيش بطريقته باحثا عن البدائل والحلول التي تناسبه وتسمح له بأن يجرب كل شيء دون أن يحسب حسابا للعوائق الموجودة.
ولأن الدعم هو الخطوة الأولى وبوابة العبور لكل النجاحات، تميز غانم في كونه محاضرا في الكثير من الجامعات والمدارس وقارئا مجودا للقرآن الكريم ومديرا لشركة، كما أنه أيضا أصغر متحدث في الأمم المتحدة وسفير للنوايا الحسنة في بلاده، وقد أدرجت قصته الملهمة في المناهج التعليمية في قطر والكويت، إضافة إلى اختياره كسفير للمونديال.
أبدع المفتاح، رغم كل التحديات، في الرياضات الذهنية والبدنية، فأجاد الغوص والتزلج وركوب الخيل وكرة السلة والكراتيه، واليوم يدرس في الجامعة تخصص علوم سياسية، ويطمح لأن يكون سفيرا لدولته الحبيبة قطر ليمثلها خير تمثيل ويعطيها كما أعطته، محولا بذلك كل المحن إلى منح.
تلك الطاقة والإبداع والإصرار على التحدي والعطاء، أبرز ما يميز الأشخاص من ذوي الإعاقة، فهم بإرادتهم يدركون أنه لا شيء مستحيل، وأنهم قادرون على خدمة أوطانهم كأقرانهم تماما، هم فقط يحتاجون إلى الفرصة والدعم على كل المستويات ليستطيعوا أن ينجزوا ويحققوا ذواتهم بما لديهم من قدرات.
ذوو الإعاقة في داخلهم مناجم من الإبداع والتميز إذا أتيحت أمامهم الفرص وذللت العقبات وسمح لهم بالاندماج في المجتمع والمشاركة فعليا في كل الأدوار، وعلى العكس تماما، فقد يكونون عبئا ثقيلا على مجتمعاتهم في حال أهملوا وتم إبعادهم عن الحياة نتيجة الكثير من الأفكار المغلوطة.
الدعم بالنسبة لذوي الإعاقة هو ضرورة ملحة وأولوية تساعدهم على النهوض بأنفسهم وتحقيق إنجازات كبيرة ومهمة، تؤكد مدى إبداعهم وإحساسهم بالمسؤولية والانتماء سواء كان ذلك على مستوى التعليم أو العمل أو الصحة أو التهيئة البيئية، وأن يكون لهم دور فعال في الحياة الاجتماعية والسياسية، فالتغيير يبدأ عندما يتحرر الجميع من النظرة القاصرة تجاه الأشخاص من ذوي الإعاقة ورؤيتهم على أنهم منجزون ومصدر فخر لأوطانهم.
خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، تبين أن 15 % من سكان العالم يعانون من الإعاقة بمختلف أشكالها أو العجز نتيجة التقدم بالعمر أو المرض، هذه النسبة ليست بالقليلة أو البسيطة، هؤلاء الأشخاص لهم الحق، كغيرهم من أفراد المجتمع، في العيش الفاعل والمساواة مع الأشخاص الطبيعيين في الكثير من الأمور، بل هم بحاجة إلى تمييز إيجابي لصالحهم.
والتأهيل الاجتماعي لهذه الفئة، وفق إبراهيم، أمر ضروري وحق لهم؛ حيث يجب إعدادهم وتدريبهم للتفاعل والمشاركة في أنشطة الحياة العامة من خلال الرعاية والتدريب وإيجاد الفرص. وكفل المجتمع الدولي الرعاية والاهتمام بالأشخاص ذوي الإعاقة من خلال اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي أقرتها الأمم المتحدة وصادقت عليها أغلب الدول، وجاء من أهم بنودها المساواة وعدم التمييز والعيش المستقل والإدماج في المجتمع وتأمين المستوى المعيشي اللائق والحماية الاجتماعية. كذلك، كفلت أغلب الدول حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في قوانينها ودساتيرها، وتوجد العديد من المؤسسات والجمعيات والمنظمات الداعمة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، كل هذا جيد، لكن الأهم هو التطبيق على أرض الواقع.
وترى إبراهيم أن كثيرا من أصحاب الإعاقات عانوا من تهميش وضعف الرعاية لعقود طويلة من الزمن، وكانت النظرة المجتمعية لهذه الفئة سلبية ووصمة عار مجتمعية، فهنالك عائلات تخجل مثلاً إذا كان أحد أفرادها من ذوي الإعاقة. وترجع أهمية الاهتمام بهذه الفئة إلى طبيعة تقدم المجتمعات وتطورها واهتمامها بحقوق الإنسان وبالفئات المستضعفة أيضا، والوضع الاقتصادي لتلك الدول ومقدار الخطط والمشاريع المعنية بها ومدى الإنفاق عليها.
ويشير الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، إلى أن الأشخاص من ذوي الإعاقة بحاجة للدعم من كل الجهات سواء في البيت أو في المدرسة وكذلك في المجتمع، وأكثر ما يبحثون عنه هو التقبل والاحترام وتحصيل حقوقهم بشكل عملي وواقعي وليس فقط على الورق أو حتى ضمن قوانين جامدة لا تعود عليهم بالنفع.
ووفق مطارنة، فإن الأشخاص من ذوي الإعاقة قادرون على النجاح والعطاء بشرط أن يحظوا بالدعم وعلى المستويات كافة، وبالتأكيد هذا كله سيكون له دور كبير في تحسين صورتهم وتمكينهم من أخذ مواقعهم بجدارتهم كاستحقاق وليس كحسنة من باب الشفقة. ويرى مطارنة أن رقي المجتمع وتقدمه يقاسان بمدى حرصه على هذه الفئة ورعايتها والاهتمام بها من كل النواحي ومنحها الفرص لكي تستطيع أن تخرج من قوقعة النمطية وظلم الأحكام المسبقة.
الاختصاصية إبراهيم، تعود لتؤكد أنه، وخلال العقدين الماضيين، ظهر اهتمام ملحوظ في المجتمعات العربية بهذه الفئة، ومع تطور التكنولوجيا والإنترنت والاطلاع على تجارب وخبرات المجتمعات المتقدمة في هذا المجال، تم عرض نماذج ناجحة جداً من هذه الفئة تم تدريبها وتعليمها لتأخذ فرصتها من النجاح مثلها مثل غيرها، وهناك أسماء كثيرة برزت في هذا الموضوع، وأصبحت تنشر خبراتها ونجاحاتها للعالم ويتعلم منها الناس جميعا ويأخذون منها الدروس والعبر في النجاح والإنجاز، وأصبح لدى المجتمع ثقافة تقبل لهذه الفئة، وتم استبدال كلمة المعاقين بذوي الإعاقة أو ذوي الهمم.
الى ذلك، تم إدماج العديد من ذوي الإعاقة في التعليم المدرسي والجامعي وحتى التعليم العالي. والدعم النفسي والاجتماعي يوجد مواطن القوة لدى هؤلاء الأشخاص لإظهار إمكانياتهم حتى لو كانت محدودة ويبعدهم عن الإقصاء والتهميش ويحسن فرص النجاح لديهم، ويعطي الشخص من ذوي الإعاقة الإحساس بالحب والانتماء للمجموعة ويشعر أن لديه مكانة في أسرته وبين أصدقائه وفي مجتمعه، ويتكيف مع ظروفه بأمان دون وجود رهاب أو خجل أو خوف مجتمعي، ويبدأ هذا الدعم من الأسرة أولاً ثم من البيئة والمحيط مثل الأصدقاء والجيران، وهذا ما نسميه الدعم غير الرسمي.
وبحسب إبراهيم، هناك أيضاً الدعم الرسمي الذي يكون منظما ومخططا من قبل الدولة ومن قبل الجهات الداعمة لهذه الفئة، لذلك يجب أن يكون هناك برامج مستمرة للتوعية بأهمية هذه الفئة وحقوقها وألا تقتصر الرعاية من قبل الدولة على الرعاية الصحية فقط، بل يجب أن تشمل الرعاية النفسية والدعم الاجتماعي والعاطفي لأنه وسيلة لتخفيف الضغوط النفسية التي يعاني منها ذوو الإعاقات نتيجة تحملهم أعباء إعاقتهم، ويبعدهم عن العزلة والوحدة.

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة