سورة الطلاق أنموذجاً/ علي راضي أبو زريق

نقوم بهذه المقالة بتحليل سورة الطلاق من وجهة نظر فن النثر. خصوصاً أن السورة منزلةٌ بأسلوبِ مقالٍ علميٍ جادٍ. فتكون فرصةً للتعرف على طريقة كتابة المقال العلمي. وعندما نعلم أن هذا الأسلوب قد توصلت إليه الخبرة البشرية بعد نزول القرآن بثلاثة عشر قرناً ونيفاً. ولم يعرفه البشر وخصوصاً العرب قبل القرآن ولا بعده بألف عام؛ فهي فرصةٌ للتذكير بأن صياغة سورة الطلاق بهذا الأسلوب هي معجزةٌ في حد ذاتها.

تكونت السورة من أطروحةٍ مثالية استغرقت الآية الأولى التي حلت محل فقرة الطرح. ثم تقوم السورة بتفصيل الأطروحة بنداً بنداً وبنفس الترتيب. ثم تُختم السورة بخاتمةٍ متفقةٍ مع شروط خاتمة المقال العلمي، كما ألهمه الله لعباده .

الأطروحة: تأتي الأطروحة بآية واحدة هي الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}

وهي أقرب إلى الفقرة منها إلى الجملة. وتحتوي رؤوس أقلام بقية السورة بإيجاز جميل ودقيق.

ولجعل التحليل سهلاً والفهمَ أسهل سنبدأ كل فقرةٍ بجزء الأطروحة (الآية الأولى) ثم نتبعه بما يقابله من بقية السورة:

1. { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ..}: وفي تفسيرها يُجمِع المفسرون أن الطلاق يجب أن يبدأ بعد طهر المرأة من حيض الدورة الشهرية وأن لا يحدث جماع بين الزوجين بعد الطهر ليبدأ الطلاق بعدة طاهرة: ويقابل هذه الجملة من السورة قول الله تعالى في الآيتين (2-3): {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. يبدأ الطلاق من عدة طهر ونعلم أن الأجل ثلاثة قروء أو دورات شهرية؛ ولا يعتبر الطلاق فيها نافذاً ولا نهائياً. وحسب الآية الثانية فللزوجين التراجع أو الانفصال النهائي مع انتهاء العدة. وفي كلتا الحالتين يلزم توثيق ذلك بشهود وبالكتاب الموثق بلغة هذه الأيام. ثم تشير الآية الثالثة إلى أهم أسباب الطلاق وهو الفقر. ومن ملاحظاتي أن المرأة تتحمل معظم انحرافات زوجها إن كان ثرياً. أو هو كذلك في المجتمعات الناطقة بالعربية.

2. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } هذا هو البند الثاني من آية الأطروحة وتقابله الآيتان (4-5) من السورة ونصهما { وَالَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ؛ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}. الأطروحة تأمر بإحصاء العدة . والآية المقابلة لهذه الجملة تحدد نوعين من العدة . الأول عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يَحِضْنَ بعد، فعدة هاتين الفئتين ثلاثة أشهر. والثاني عدة الحوامل؛ وتنتهي عدتهن بوضع أحمالهن. عسى أن يؤدي ميلاد الطفل إلى إنقاذ الحياة الزوجية لوالديه. وتأتي الآية الخامسة لتنهى عن أي تلاعبٍ أو خطأٍ أو تقصيرٍ في تنفيذ هذه التعليمات. وتقابل بهذا شبه الجملة الثانية من بند إحصاء العدة وهو قوله تعالى «واتقوا الله ربكم».

3.{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}. هذا بند السكن في الأطروحة وتقابله الآيتان (6-7) من السورة: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. وهاتان الآيتان تفصلان موضوع السكن والنفقة وحكم الرضيع إن وُجد.

4.{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}يقول هذا الجزء من الأطروحة إن أحكام الطلاق هذه هي من حدود الله التي لا تهاون مع من لا يلتزم بها. فصاحب الحدود هو الملك العزيز القدير المهيمن. فهل يرضى أن يحرج أحد حدوده؟ الجواب يكون في بقية السورة وبلهجة قاسية:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}. فهذا العذاب الذي استحقته القرية إنما هو بسبب اعتدائها على حدود الله المذكورة في السورة. أي في مجال علاقات الأسرة والزواج. وليس بسبب أي انحراف آخر. فالسورة مكرسة للطلاق ولمعالجة ذيوله.

5. وختاماً: تأتي الآيات (11-12) لتذكر الناس أن مثل هذه السورة وما بها من أحكام إنما هي نعمة من الله؛ منَّ بها عليهم؛ عندما أرسل لهم رسولا بآيات بينات، بتعاليم واضحةٍ خيرها ظاهرٌ لهم ونفعها. وليعلموا أن الله على كل شيءٍ قديرٍ. فكما أرسل لهم هذه الآيات الواضحة فهو قادرٌ على معاقبة من يعصي قيم الفطرة التي تنتمي لها هذه الأحكام. { رَّسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}. وتأتي هذه الخاتمة لتكون استجابة لبداية الآية الأولى فهي موجهة للنبي « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء..». فالسورة نداءٌ للنبي ليعلم أتباعه أحكام الطلاق. وتأتي الآيات الثلاث الأخيرة لتذكرنا أن هذه الأحكام إنما هي بفضل وجود رسول الله بيننا. فلنعرف هذا ولنشكر الله، ولنعرف حق رسولنا علينا.

وسؤالنا الختامي هل عرفت البشرية نصاً بهذا الإتقان وهذه الحكمة قبل سورة الطلاق أو بعده بقرن أو قرنين من الزمان؟ فعدا عن الإتقان في الصياغة تتنزل السورة بأحكام الطلاق وبتبريرها وبما ينتظر المجتمع الذي لا يلتزم بها.

الدستور

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة