صالح الجعفراوي.. صوت غزة الباقي رغم رصاصات الغدر

لم يكن صالح عامر الجعفراوي، ابن غزة المولود في 22 نوفمبر 1998، مجرد صحفيٍّ يحمل كاميرا على كتفه، بل كان قلبًا نابضًا بالصورة، وعدسةً ترى ما لا يراه الآخرون: وجع الناس، وكرامة الصمود في وجه الموت.

في أزقة غزة الضيقة، وبين ركام البيوت المهدّمة؛ كان صالح يتنقّل في مهمة مقدسة، يعرف أن الصورة التي يلتقطها اليوم قد تكون آخر ما يراه في حياته، لكنها أيضًا قد تكون الشهادة التي تبرّئ الحقيقة من كذب الاحتلال.

وثّق كل شيء: وجوه الأطفال المرهقة في الملاجئ، أيدي الأطباء المرتجفة فوق المصابين، ودموع الأمهات المعلّقة بين الفقد والدعاء.. لم يكن يختبئ خلف الكاميرا، بل كان يعيش داخلها؛ حين يهتزّ الإطار، كانت غزة كلها تهتزّ معه.

وفي زمنٍ حاولت فيه آلة الحرب أن تطفئ الضوء؛ كان الجعفراوي يشعل العدسة من رمادها.. لم يبحث عن شهرة، ولم يطلب نجاة، بل كان يكتب وصيته كل يوم في لقطة جديدة. قال ذات مرة: “لن أغادر غزة، ولن أضع الكاميرا ما دمت أتنفس”، وكأنّه كان يعلم أن الكاميرا ستبقى حين يرحل.

واجه صالح تهديدات الاحتلال بالقتل، وتلقّى حملات تشويهٍ واتّهاماتٍ سخيفة بأنه يختلق المشاهد، لكنه ظلّ ثابتًا كصورةٍ لا تُمحى.. لم يردّ بالكلمات، بل بالصور، بالصوت والدمع والحقيقة التي لا يمكن دحضها.

حين استهدف عملاء الاحتلال وقتلوه؛ لم يمت كما أرادوا، بل خُلد ذكرُه كما لم يتخيلوا.. صار وجهه عنوانًا لصدق المهنة، ورمزًا لجيلٍ من الصحفيين الفلسطينيين الذين نذروا أرواحهم كي تبقى الحكاية حيّة.

اليوم؛ تتناقل الأيدي مقاطع صالح كما لو كانت تراتيل الوداع، ومنشدو غزة يرثونه بأصواتٍ مبحوحةٍ من الحنين، وأصدقاؤه يلمّون صوره المبعثرة كمن يجمع أجزاء الضوء من بين الأنقاض.

رحل صالح، لكن كاميرته ما زالت تصوّر.. تصوّر من هناك – من حيث لا صوت إلا الصمت – وجوه من تبقّى، وأحلام من رحلوا.. وسيبقى اسمه في ذاكرة غزة، وجهها الأجمل، وعدستها الأصدق، وصوتها الذي لم يخشَ الحقيقة، حتى حين صارت الحقيقةُ هي الموت.

السبيل –

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة