عربدة خارج الحدود.. من يملك مفتاح ردع الجنون الصهيوني؟

– في خضم تصعيد الكيان الصهيوني المحتل المتواصل، واتساع خريطة الضربات لتشمل جبهات متعددة في المنطقة، يتجلى تحول واضح في الإستراتيجية العسكرية والسياسية الصهيونية، يقوم على توسيع نطاق المواجهة خارج حدود فلسطين، تحت ذرائع أمنية وإستراتيجية فضفاضة، دون اكتراث للسيادة الوطنية للدول، أو للضوابط التي يفرضها القانون الدولي.

واللافت، وفق تصريحات خبراء في الشأن السياسي لـ”الغد”، أن هذه السلوكيات التصعيدية تجري وسط صمت دولي مريب، لا يكسره سوى مواقف رمزية محدودة، كتعليق جزئي للشراكة الأوروبية مع إسرائيل، أو دعوات لاجتماعات دبلوماسية عاجلة، سرعان ما تتبخر في زحمة توازنات المصالح الدولية.
ووفق المختصين، فإن هذا الصمت لا يعكس حيادا بقدر ما يعكس خللا بنيويا في النظام الدولي، الذي ثبت عجزه عن مساءلة الكيان الهيوني أو كبح اندفاعاته العسكرية، بسبب هيمنة قوى كبرى على أدوات القرار الأممي، وخصوصا في مجلس الأمن، حيث يتم تعطيل أي إجراء ملزم عبر حق النقض.
وعلى الضفة الأخرى، تبدو المواقف العربية والإسلامية متفرقة وخجولة، رغم تحذيرات متعددة من دول عربية، وذلك توازيا مع غياب تحرك جماعي منسّق وفاعل، وتبقى بيانات الشجب عاجزة عن فرض تكلفة سياسية على الكيان.
عجز أوروبي
وفي هذا السياق، حذر الخبير الأمني والإستراتيجي د. بشير الدعجة، أن ما نشهده اليوم “لم يعد مجرد سلوك عابر أو ردود فعل أمنية محدودة، بل أصبح إستراتيجية ممنهجة تنفذها حكومة الاحتلال على أكثر من جبهة؛ سورية، لبنان، العراق، اليمن، إيران، وأخيرا قطر.
وأكد الدعجة أن هذا يحدث “وسط صمت دولي مريب، يترافق أحيانا مع تواطؤ مقنع من بعض القوى الكبرى، باستثناء مواقف رمزية لا تتجاوز كلمات مجردة، مثل تصريح المفوضية الأوروبية بتعليق جزئي للشراكة مع إسرائيل”.
وقال الدعجة إن المجتمع الدولي “يبدو عاجزا عن اتخاذ موقف حازم يكبح هذا الجنون السياسي والعسكري”، فيما رأى أنه على المستوى الأوروبي، توجد “أصوات عالية في البرلمان الأوروبي ونشاط ملحوظ من منظمات المجتمع المدني في إدانة العدوان الصهيوني، لكن المصالح الاقتصادية والتكنولوجية تلون الخطاب الأوروبي بألوان مزدوجة؛ نقد ظاهر في العلن، وتعاون سري في الخفاء”.
وأوضح أن “حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بلغ حوالي 42.6 مليار يورو في 2024، وهو رقم يكشف مدى المصالح التي تقيد الأوروبيين عن اتخاذ إجراءات عقابية جادة”.
وأشار الدعجة إلى العجز البنيوي في النظام الدولي، حيث “أصبحت الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحت تأثير حق النقض”، مبينا أنه “تم حظر أكثر من 45 مشروع قرار ضد الاحتلال الصهيوني باستخدام الفيتو الأميركي وحده”، وهو ما اعتبره دليلا على أن “المؤسسات الدولية فشلت في ضبط السلوكيات المتمردة، وتحولت بدلا من ذلك إلى آلات لتكريس سياسة الكيل بمكيالين”.
وفيما يتعلق بالدور العربي والإسلامي، أكد الدعجة أن “الضعف واضح رغم وجود مواقف شريفة هنا وهناك”، مبينا أن الجميع “فشل في بناء جبهة موحدة قوية تستطيع فرض تكلفة حقيقية على الكيان”.
وتابع: “هناك دعوات وتنبيهات من الجزائر، والكويت، ومجلس التعاون الخليجي، لكن الجهود ما تزال متفرقة، بلا أدوات ضغط اقتصادية أو إعلامية أو سياسية تحدث الفارق”.
ورغم هذا الواقع، شدد الدعجة على أن “الأدوات بيد العرب والمسلمين لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية جماعية”، لافتا إلى أن “النفوذ الاقتصادي العربي يمكن استثماره في الضغط على المواقف الأوروبية، فحجم التبادل مع الغرب يتجاوز 300 مليار دولار سنويا”.
كما دعا إلى ضرورة “تسريع الملاحقة القانونية للاحتلال عبر تحريك ملفات جرائم الحرب أمام محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية بشكل منسق وجماعي”، حتى “لا تبقى القضية الفلسطينية رهينة للصفقات السياسية”.
وفي السياق ذاته، قال الدعجة إن “المجال الإعلامي يمثل ساحة مواجهة يجب استثمارها بفعالية”، مشيرا إلى أن “الاحتلال يمول آلة دعائية ضخمة لتبرير جرائمه، بينما الخطاب العربي يعاني من التشتت والضعف”.
ودعا إلى العمل على “إستراتيجية إعلامية موحدة تعيد صياغة الرواية العربية وتفرض حضورها في الرأي العام الغربي”.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فدعا إلى “تعزيز التحرك النشط، وبدل الاكتفاء بالبيانات، يمكن تأسيس تحالف دبلوماسي عربي –إسلامي يطرق أبواب الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، ومنظمات آسيا وأميركا اللاتينية”، مشددا على ضرورة “إعادة تعريف القضية الفلسطينية كقضية أمن عالمي وليست نزاعا محليا”.
أهمية الدور الأردني
وشدد الدعجة على أهمية الدور الأردني في مواجهة هذه المرحلة الدقيقة، متابعا “وسط هذا الواقع، يبرز الأردن بموقفه الصلب، حيث تصدى بحزم لسياسات الاحتلال منذ اندلاع الحرب الأخيرة”.
وقال إن “جلالة الملك عبد الله الثاني كان صوتا عربيا واضحا في تحذير العالم من خطر “الترانسفير” ومحاولات تهجير الفلسطينيين، وليس بالأقوال فقط، بل تحرك الأردن دبلوماسيا على المستويات كافة، في الأمم المتحدة والقمم العربية والإسلامية، مؤكدا أن أمنه واستقراره مرتبط بالقضية الفلسطينية.
وأشار إلى أن “الأردن قاد خلال الشهور الماضية أكثر من 20 تحركا رسميا دوليا للتصدي لمحاولات بناء واقع جديد في غزة والضفة”، مؤكدا أن “الإرادة السياسية، رغم محدودية الإمكانات، قادرة على إحداث فرق حتى في ظل اختلال توازن القوى”.
وأضاف: “باختصار، الصمت الدولي إزاء التصعيد الصهيوني ليس صدفة أو عجزا بريئا، بل هو نتيجة توازنات دولية معقدة، ومصالح اقتصادية متشابكة، وعجز مؤسساتي في النظام العالمي، لكنه أيضا انعكاس لغياب ضغط عربي وإسلامي جماعي ومنظم”.
وتابع: “إن لم تستثمر الأدوات المتاحة، الاقتصادية، والقانونية، والإعلامية، والدبلوماسية، بشكل موحد، فسيبقى الاحتلال يتمادى بلا رادع، وسيظل الدم العربي والفلسطيني مستباحا”.
سلوك خارج الضوابط
وفي قراءته لمجريات التصعيد الصهيوني المتواصل واستهداف الاحتلال لجبهات متعددة في الإقليم، أكد أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الألمانية الأردنية د. بدر الماضي، أن “السلوك العسكري والسياسي الصهيوني بات خارج أي إطار منضبط، لا يخضع لقانون دولي، ولا لاحترام الاتفاقات الثنائية أو المتعددة، بل وحتى خارج الحدود الأخلاقية المتعارف عليها بين الدول”.
وقال الماضي إن هذا النهج العدواني “ينتهك بشكل مباشر حق الدول الأخرى في ممارسة سيادتها، وحق الشعوب في العيش بأمان فوق أراضيها”.
وأشار إلى أن الاحتلال اليوم يمارس هذا الجموح العسكري والسياسي لأسباب كثيرة، إلا أن الدافع الأهم لهذا الانفلات، هو وجود راعٍ رسمي لهذا السلوك، يتمثل في المجتمع الدولي الذي لا يفرض أي ضغوط حقيقية على حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.
ولفت إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في بنية النظام الدولي المختل، بل في “الغياب التام لبعض الدول العربية المفتاحية عن الساحة السياسية والدبلوماسية”.
وأوضح أن “هناك دولا عربية تمتلك القدرة، عبر مواقف سياسية واضحة وتحركات دبلوماسية حقيقية، على كبح جماح الاحتلال ودفعه إلى إعادة حساباته الإستراتيجية، لكنها تلتزم الصمت أو الغياب في لحظة تاريخية حساسة”.
ورأى أنه لا يمكن مواجهة التسيد الغربي على النظام الدولي، إلا من خلال تعزيز الصف الداخلي العربي، بدءا من الدائرة الفلسطينية – الفلسطينية، مرورا بالتنسيق العربي الأوسع، وصولا إلى التحرك على الساحة الدولية.
وشدّد على ضرورة أن “تتحرك الدول المحيطة مباشرة بالصراع بموقف واضح، وأن تتحمل الدول العربية القادرة مسؤولياتها”، مضيفا إنه “دون ذلك، سنبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة، وسيستمر الاحتلال بالتصرف كما لو أنه لا يرى أحدا في هذا العالم، أو كأن لا أحد يردعه”.
اختبار المصداقية
وفي تعليقه على التصعيد الإسرائيلي المتواصل واستهداف الاحتلال لعدة جبهات في المنطقة، من سورية ولبنان، إلى العراق واليمن، وصولا إلى إيران وأخيرا قطر، أكد الباحث السياسي د. منذر الحوارات، أن “العالم اليوم أمام اختبار صارخ لمصداقية النظام الدولي، الذي يقف عاجزا أمام هذا الجنون الصهيوني المنفلت من كل الضوابط”.
وقال الحوارات إن “ما نلاحظه هو صمت دولي مريب، لا يقطعه سوى بعض المواقف الرمزية التي لا تتجاوز الشكل، كتعليق جزئي للشراكة الأوروبية مع الاحتلال، أو دعوات محدودة لعقد اجتماع دولي عاجل، أو تحركات خجولة هنا وهناك”، معتبرا أن هذا الصمت ليس محايدا، بل يحمل دلالات عميقة تتصل بطبيعة توازنات القوى الدولية.
وأضاف أن هذا الجمود الدولي “لا يمكن قراءته بمعزل عن التحالفات والتبعية السياسية”، موضحا أن “أوروبا اليوم تعيش مأزقا حقيقيا؛ فهي ممزقة بين ضغط الرأي العام المتعاطف مع الفلسطينيين من جهة، والتبعية الأمنية والسياسية للولايات المتحدة من جهة أخرى”، فيما “تنظر قوى كبرى كالصين وروسيا والهند إلى المنطقة من زاوية مصلحية بحتة، لا تعير أي اهتمام فعلي لقضايا حقوق الإنسان أو القانون الدولي، طالما أن مصالحها الجيو–اقتصادية تتحقق”.
وشدد على أن “النظام الدولي، كما تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، يثبت يوما بعد يوم عجزه البنيوي عن إنفاذ العدالة أو تطبيق القانون الدولي”.
وتابع: “أصبح القانون الدولي بلا أي قيمة فعلية لتحقيق العدالة، طالما بقي خاضعا لهذا التمييز الفج، الذي يمنح إسرائيل غطاء دائما للإفلات من العقاب”، لكنه في المقابل شدد على أن “هذا الواقع يجب ألا يؤدي إلى الاستسلام، فهناك إمكانيات كبيرة يمكن استثمارها”.
وحول الدور العربي، اعتبر الحوارات أن “الدول العربية تمتلك أدوات مهمة، لو جرى تنسيقها بشكل فعال، لتوحد الموقف داخل الأمم المتحدة والجمعية العامة”، لافتا إلى أن “تفعيل آلية الاتحاد من أجل السلام يمكن أن يشكل بديلا عمليا أمام تعطل مجلس الأمن بسبب الفيتو الأميركي، ما يفتح مجالا لقرارات دولية قد تحدث أثرا سياسيا وقانونيا حقيقيا”.
وأضاف إن “الدول العربية والإسلامية تمتلك أوراق ضغط معتبرة في مجالات الاقتصاد والطاقة والاستثمار، وخاصة في ملف النفط والغاز”، مشيرا إلى أن “الرد على السلوك الصهيوني يجب ألا يكون محصورا بالقوة العسكرية فقط، فالإدارة الذكية لتلك الأدوات السياسية والاقتصادية يمكن أن تشكّل ضغطا فعالا”.
وأشار إلى أهمية “تعزيز الشراكات الإستراتيجية مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا قد يفتح بدائل جديدة لدعم القضايا العربية، شريطة أن يكون هذا التحرك مدروسا ومنسقا، لا فرديا أو موسميا”.
وقال إن “هذا الصمت الدولي ليس بريئا، بل هو نتيجة مباشرة لتوازنات دولية مختلّة، وعجز مؤسسي في بنية النظام العالمي القائم. لكن، ورغم ذلك، لا يمكن أن نركن إلى الاستسلام”.
ودعا في هذا الجانب، إلى أهمية فتح أبواب جديدة لمبادرات عربية وإسلامية تتسم بالجرأة، وتستند إلى أدوات القانون، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، مشيرا إلى أن “هذه الأدوات قد تكون الطريق الوحيد لاختراق جدار الانحياز الدولي وكسر معادلة إفلات الاحتلال من العقاب… وإلا، سنظل ندور في حلقة مفرغة، بلا نهاية”

إيمان الفارس/ الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة