في حضرة الإعلام… ووجع الحبر // د. زيد أحمد المحيسن

حين يُقرِّر الحرف أن يكون شاهدًا، لا مجرّد ناقل، يصبح الكتاب وطنًا صغيرًا، وتغدو الكلمة قبيلةً كاملةً من الوفاء. هكذا كان المساء في اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين، حين التأمت القلوب حول كتابٍ ليس ككلّ الكتب، لأنه لا يُخبر فقط، بل يُنصف. كتاب “إعلاميون في سماء الأردن”، الذي خطّه الإعلامي المخضرم الدكتور عامر الصمادي، بمداد التجربة ووجع السنين، جاء كمرآةٍ صافية تعكس ملامح الذين وقفوا خلف الكاميرا ليُضيئوا وجه الوطن، دون أن يطلبوا التصفيق.
ما أشبه الحرف حين يُولد من رحم الألم، بطفلٍ يتيمٍ يتعلّق بثوب أمّه التي غابت. هكذا بدا الصمادي وهو يستعرض معاناة تأليف هذا الكتاب: من التكاليف المادية التي تحمّلها شخصيًا، إلى الجفاء الرسمي، والمزاجية القاتلة، إلى أولئك الذين جلسوا فوق المشهد الإعلامي لا ليبنوه، بل ليحجبوا ضوءه عن أهله. أشار تلميحًا لا تصريحًا، لكنه بلغ كل من يعنيه الأمر. فليس الألم بحاجة إلى صراخ كي يُفهم.
الجلسة التي عقدها الاتحاد، لم تكن احتفالًا عابرًا، بل كانت استعادةً لأرواحٍ ظلت ردحًا من الزمن طيّ النسيان. الدكتور تيسير أبو عرجة، بفراسته النقدية وذكائه الأدبي، التقط روح الفكاهة بين السطور، وقرأ النص بعين الأديب لا بعين الموظف. أما الدكتور محمد المناصير، المؤرخ الذي يعرف كيف يُخلّد المواقف، فقد قدّم شهادة فيها من التوثيق بقدر ما فيها من الانتماء. وبين النقد والشهادة، جاءت إدارة الأديبة ميسون الباز لتضفي على الجلسة حيويةً أدبيةً نادرة، بكلماتٍ مختارة بعناية، توزّعت بين الحضور كعطرٍ صيفي خفيف.
ولأن الحرف لا يعرف الحدود، كان من بين الحضور سعادة السفير السوداني، في مشهدٍ يُثبت أن الكلمة الحرة قادرة على جمع من تفرّقهم السياسات. كما شارك عدد كبير من المثقفين والإعلاميين، احتفاءً لا بالمؤلف وحده، بل بالحقيقة التي جاء بها كتابه.
لكن، في الجانب الآخر من الصورة، ثمّة مرارة لا تخفى. إذ كيف لحدثٍ وطني بهذا الحجم، يوثّق وجدان الإعلام الأردني، أن يُمنع من التغطية؟ بأي معيار يُقصى موظف، وتُحجَب كاميرا؟ وهل صارت الذاكرة الوطنية خاضعة لأمزجة العابرين؟ تساؤلات طرحها الصمادي بمرارة، وأودعها بين السطور، لتبقى وصمةً على جبين من لا يُقدّرون الكلمة، ولا يعترفون بجميل من سبقهم.
ورغم كل شيء، بقي الحفل احتفاءً ناصعًا بالمبادرة الفردية، وبالجهد الذي لا ينتظر دعمًا رسميًا كي يولد. وهنا، لا بد من تحيةٍ صادقةٍ إلى اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين، وعلى رأسه الأستاذ عليان العدوان، الذي منح هذا الكتاب مساحةً يستحقها، وأكد أن الاتحاد ليس حاضنة للكتّاب فقط، بل خندقًا متقدّمًا لحماية الذاكرة الوطنية.
“إعلاميون في سماء الأردن” ليس مجرد عنوان، بل شهادةٌ على زمنٍ كان فيه الإعلاميون أنبياء الكلمة، لا نجوم الشاشات. كتابٌ يحمل بين دفّتيه سيرة وطن، ودمعة مذيع، وصوت مخرِج، وصمت موظف تقاعد دون أن يراه أحد. كتابٌ أرادوه أن يُنسى، فأصرّ صاحبه أن يُكتب.
ويا لروعة الحرف حين ينتصر!.