في غزة.. أصوات الصغار تناشد الحياة وأحلام بريئة تبعثرها شراسة الحرب

في أحد المستشفيات في قطاع غزة المشتعل بالظلم والقتل والهدم، تقول الطفلة ليان الباز (13 عاما) بتعبيرها البريء الممزوج بالفزع وهول الفقدان: “لا أريد أطرافا صناعية، ازرعوا لي أقدامي، يُمكن زراعتهم لم يقطعوا تماما” لتختصر بتلك الكلمات معاناة الأطفال في غزة الذين ينكل بهم في كل لحظة.
ليان بترت قدماها جراء قصف إسرائيلي، وكحال ليان هناك آلاف الأطفال الذين فقدوا أطرافهم، كلها أو بعضها، وبترت معها أحلامهم الصغيرة بعد أن تركت الحرب آثارها القاسية على أرواحهم.
في غزة طفولة محتضرة تقاوم حتى آخر رمق، وأحلام كثيرة يحملها الأطفال في جعبتهم بعثرتها الحرب هنا وهناك بعد أن تعدت شراسة الحرب على براءتهم بأبشع صور الاعتداء، وأصبحوا يواجهون مختلف أنواع الحرمان حتى من أبسط الضمانات والحقوق، على الرغم من بساطة ما يطلبونه ويحتاجونه إلا أنه أصبح بعيد المنال.
كما حال الطفلة حياة، التي تقول في مقطع نشر لها “أنا أسمي حياة وبحب الحياة وبحب أطلع وألعب”، فيما أقعدتها الحرب ومنعتها من اللعب واللهو مع نظرائها بعد أن تركت كسورا عدة في جسدها، عاقتها عن الحركة وممارسة أبسط حقوقها.
أما ماريا أبو صافي (14 عاما) فقضت أربعة أيام من الرعب تحت أنقاض منزلهم الذي هدمه الاحتلال على رؤوسهم وحوله إلى ركام اختفت الأسرة تحته، تشرح ماريا ما حصل معها “كانت الغرفة مليانة حجار ولا نستطيع الحركة أبدا، كنت أقرأ القرآن بصوت عال لتهدأ أختي، وحينما أسمع صوت الدبابات وهي تقترب أتوقف خوفا منهم ثم أعاود الكرة من جديد”. وفي مشهد بات يتكرر كل يوم، مئات الأطفال يرتعدون وترتجف أطرافهم داخل غرف المستشفيات من قسوة ما اختبروه وعدم قدرتهم على استيعابه لقوته وشدة أثره، ومنهم أحمد الذي يرفض الشعور بالعجز والاستسلام على الرغم من جسده الذي يرتجف إثر ما عاشه واختبره، يقول في محاولة يائسة منه للثبات أمام الأطباء: “فش فيي اشي، والله فش فيي اشي يا عمي أنا بس برجف”.
هؤلاء الأطفال يواجهون الموت يوميا وبصور عدة تاركين حسرة وندبة لا تختفي في قلوب ذويهم، وفي مشهد يلخص ذلك الألم يقول الأب المفجوع باستشهاد ابنته الصغيرة: “بنتي والله بنتي، لسه اليوم جبتلها بامبرز!” هذا ما استطاع أن يتفوه به عن خسارة لن يعوضه أي شيء عنها، تاركا سؤالا معلقا بالأفق.. ما ذنب هؤلاء الأطفال في الحرب ليطيروا مبكرا إلى السماء؟
في سلسلة تحمل عنوان “أحلام غزة” وثق صانع المحتوى مهند أبو رزق أحلام الصغار وأصواتهم بتطلعاتهم الطفولية البسيطة، وكانت الإجابات على هذه الشاكلة، وتنوعت ما بين “نفسي الحرب تخلص ونضل عايشين وكل الناس يضلوا مناح.. بحلم بس أكبر أصير مهندس وأعمر البيوت لما يقصفها الاحتلال وتصير أحلى بلد.. بحلم نرجع على بيوتنا وحياتنا الطبيعية.. نفسي أصير دكتورة عشان أعالج الناس بالحرب”.
وكانت بعض الإجابات والأحلام في مقاطع أخرى نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مؤثرة ومؤلمة، وفي مثال على ذلك “نفسي أكول شاورما، بحلم أشرب مي حلوة (نظيفة)”، حيث أصبح المأكل والمشرب في غزة حلما بعيدا يداعب خيال الأطفال وينتظرونه بفارغ الصبر.
المستشار التربوي، الدكتور عايش النوايسة يقول إن الأثر النفسي والاجتماعي الذي خلفته الحرب كبير جد وهو مرتبط بحجم المعاناة والمأساة التي يعيشها الأطفال ولا سيما الذين فقدوا أسرهم، حيث تؤثر ظروف الحرب وما يقع فيها على شخصيات الأطفال المستقبلية وعلى توازنهم ونموهم الشامل وتخلف اختلالات عدة لديهم في الجانبين العاطفي والنفسي.
إلى ذلك، تزداد مع الحرب نسب إصابة الأطفال بالصدمات النفسية والاضطرابات وفي حالات كثيرة فقدان العقل، والتي تلعب دورا كبيرا في جانب الشعور بالأمان والتوازن، ولذلك فإن التأثيرات كبيرة جدا بحسب نوايسة وتمتد فيما بعد أيضا على طبيعة الحياة التربوية التي سيعيشها الطفل.
ويرى أن الأطفال كنتيجة طبيعية للحرب فقدوا ثقتهم في الآخرين وفقدوا الدعم والمساندة وخاصة تلك المرتبطة برعاية الأب والأم ووجود العائلة، وبالتالي نرى كثيرا من الأطفال أصبحوا يتمنون الموت وهذا ظهر في صور عديدة أصبح الأطفال يشيرون فيها إلى رغبتهم في الاستشهاد.
وفي حالة تؤشر على ذلك الوضع الصعب؛ تعبر فتاة لا يتجاوز عمرها الثانية عشرة عاما في غزة بعيون تنهمر بالدموع وبغصة لا يسعها التعبير بالكلمات عن حجم الفقدان والوحدة الذي سكن واقعها في عالم ظالم ينادي بشعارات لا يطبقها ويخذلهم بصمته المطبق: “حاسة أني لو متت مع أمي أحسن من المأساة اللي بشوفها، كل اللي بحبهم وبعزهم راحوا”.
إلى ذلك، يبين نوايسة أن حجم الفقدان في غزة كبير وهناك نسب عالية ممن فقدوا أسرهم بأكملها ومنهم من فقد أطرافه أو جزءا من جسمه، وفقدوا أصدقاءهم، بيوتهم، مدارسهم، وكل ما يمتلكونه، وأصبح ذلك كله يشكل لهم ذكريات مؤلمة وسلبية مرتبطة بالمعاناة والألم، فضلا عن انعدام وجود المأكل والمشرب والمأوى والتشرد.
ووفق نوايسة يحتاج هذا إلى معالجة شاملة تعيد لهؤلاء الأطفال التوازن النفسي الطبيعي ضمن السياق الاجتماعي الذي يعيشون به، ويجب أن يكون حجم العلاج متناسبا مع حجم المعاناة والألم الذي خلفته الحرب، لمعالجة تلك الاختلالات النفسية التي أصابت الأطفال، وذلك يتطلب تعاونا بين المنظمات الدولية والمؤسسات الإنسانية التربوية المختصة في تقديم برامج نفسية تساعد الأطفال وتعيدهم إلى الاندماج.
يلفت في السياق، “في غزة تختلف طرق التربية عن أي منطقة أخرى في العالم، والحصانة النفسية بالتالي أعلى، ولكن الاستجابة لتلك الأحداث الواقعة في الحرب أكبر بكثير مما يستطيعون تحمله”، لذلك فإن مستوى التحدي كبير جدا ويجب أن تكون الاستجابة بذات حجم الدمار والأذى. ووفق النوايسة، يحتاج الأطفال إلى آليات ومدربين مختصين قادرين على التعامل مع الوضع لإعادتهم إلى مستوى الحياة الأقرب إلى الطبيعي الذين يستطيعون التعايش معه، فضلا عن أهمية رعاية الأيتام الذين أصبحت أعدادهم كبيرة جدا.
ومن جهته يرى المختص في حقوق الإنسان، رياض صبح، أن استمرار الانتهاكات الواقعة على الأطفال والتنكيل بهم يعتبر كارثيا وكبيرا جدا ويطال كل شيء، بما في ذلك حقهم في الحياة وحقهم في الصحة والعلاج والتعليم وغيرها، وهناك أعداد كبيرة توثق ارتفاع نسب الإصابات في صفوف الأطفال والنساء والتي تصل لغاية 70 %.
علاوة على ارتفاع نسب الأطفال الأيتام والإعاقات وفقدان أساسيات الحياة وتعطل مختلف نواحيها في غزة، الأمر الذي فاقم من الوضع الإنساني في غزة حيث أصبحت عملية الرعاية في الحرب صعبة للغاية ولا سيما مع القصف المستمر الذي يعمل في كل نواحي القطاع بحسب صبح.
وعن الصمت العالمي في مواجهة الأحداث في غزة وغياب الدور الإنساني والحقوقي للأطفال فيها، يقول صبح: “يفترض بالتشريعات الدولية بالطبع أن تطبق بروتوكولات حماية الطفل أو البروتوكولات الاختيارية الملحقة بها، أو حتى اتفاقية جنيف التي تمنع استهداف المدنيين، أو نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، غير أن كل ما تم حدوثه وما يحدث على الأرض مخالف لتلك التطبيقات”.
ويكمل، “جميع الآليات الدولية شبه معطلة ومنحازة للجانب الإسرائيلي، وهناك تخاذل كبير وشلل في عمل هذه الآليات الدولية، إذ إن مجلس الأمن منحاز بسبب الفيتو الأميركي، وفي المحكمة الجنائية الدولية هناك تخاذل وانحياز، وتمثل في عدم قيام المدعي العام للمحكمة بدوره، وهذا كله يشير إلى عدم الفاعلية والشلل التام لهذه الآليات”.
أما ما يخص حقوق الإنسان الأخرى وما يتعلق بملحق حقوق الإنسان ولجان الاتفاقيات فهي تجري إجراءاتها بشكل طبيعي وفق ما يراه صبح، ولكن هي بطبيعتها تعمل بهذه الوتيرة ونظام المساءلة فيها ودي وحواري وهي لا تتبع أي تدابير عقابية بطيعة الحال.
ويشير في الختام إلى مستوى آخر لجوانب الأثر المأساوي للحرب، بقوله: “حتى ما بعد الحرب لا يمكن إعادة الإعمار دون موافقة الجانبين الأميركي والإسرئيلي للأسف، إذ إن هناك عبئا ضخما يتطلبه البناء والإعمار، بسبب حجم الخسائر الكبير جدا في المباني والبنى التحتية للمنازل والمدارس والطرق والوقود والمياه وغيرها، وإذا ما تم الضغط على الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بهذا الشأن سيكون الأمر كارثيا ولا يمكن توقعه.

الغد/ علا أبو الخير

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة