من تاجر إبل إلى تاجر حرب.. من هو “حميدتي”؟

يبدو “أمير الحرب” في أفضل حالاته العسكرية والاقتصادية فهو يسيطر على مناجم الذهب حيث شكلت تجارة الذهب أربعين بالمائة من الصادرات السودانية. كما توسع في الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، مما وضعه في قائمة أحد أغنى الرجال في السودان، والأخطر أنه يسيطر عسكريا على نصف مساحة السودان.
رفض بداية المشاركة في المجلس العسكري الذي أقال واعتقل الرئيس عمر البشير، لكن هذا الرفض المبطن لم يستمر سوى يومين، بعدها وافق على أن يكون الرجل الثاني في المجلس في التراتبية العسكرية كنائب لرئيس المجلس، لكنه في الممارسة الفعلية كان الرجل الأول بلا منازع أو منافس.
كان يد البشير الحديدية التي يضرب بها خصومه وقتما شاء، كان أشبه بقائد حرس ملكي للبشير، لكنه في لحظة ودون مقدمات انقلب على معلمه ومرشده الذي منحه اللقب العسكري دون أن يمر بأي مرحلة من مراحل العسكرية الكلاسيكية، فهو لم يتلق تعليما أكاديميا، ولم ينخرط يوما في الجيش.
“الفريق” محمد حمدان دقلو الذي لقبه البشير تحببا بـ”حميدتي” المولود عام 1975 في قرية الرزيقات، لم يكمل تعليمه الثانوي واتجه لممارسة تجارة الإبل والقماش وحماية القوافل.
عرف عنه في طفولته قيادته لمجموعة صغيرة من الشباب التي كانت تعمل على تأمين القوافل وردع قطاع الطرق واللصوص. وواصل التجارة المنقولة بين مدينتي “مليط” و”نيالا” حتى حققت تجارته وأعماله نجاحا بين السودان وتشاد ودارفور وجنوب ليبيا.
نجاحه الأكبر في التجارة تزامن مع الانقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير عام 1989.
وبعد انقلاب الأوضاع في دارفور أكبر إقليم بالسودان، ووقوع “تمرد” من قبل حركات مسلحة، حمل “حميدتي” ورفاقه من قبيلة الرزيقات السلاح ضد حركات “التمرد” لحماية قطعان الإبل التي يملكها.
وبعد فترة قصيرة سعى “حميدتي” إلى “شرعنة” وضع مقاتليه والحصول على وضع قانوني خاص، ونجح في ذلك بعد زيارة إلى الخرطوم، حيث تلقف الجيش السوداني باستحسان فكرة وجود قوات مساندة له لمحاربة حركات دارفور التي تمكنت عام 2003 من الهجوم على مدينتي “الفاشر” و”الجنينة”.
ومن الخرطوم عاد “حميدتي” في عام 2010 بمنصب قائد قوات “الدعم السريع” وبرتبة فريق أول، وهي قوات خاصة يغلب عليها أبناء قبيلة الرزيقات، وشكلت على مبدأ نسق حركات دارفور المسلحة.
وفي البدء أسندت لقوات “الدعم السريع” مصاحبة وحماية الأطواف التجارية، وهي القوافل التي تنقل المؤن والوقود إلى ولايات دارفور ثم توسع دورها لاحقا.
لقيت هذه القوات دعما مباشرا من البشير، وانخرطت مباشرة في حرب دارفور وسط أنباء تحدثت عن ارتكابها “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. ورغم الانتقادات فإن الثقة التي كانت تحظى بها القوات من البشير منحتها المزيد من القوة والنفوذ والدعم، لتكون إحدى أذرع النظام القوية.
وذكرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في أحد تقاريرها السابقة “أن قوات الدعم السريع بقيادة “حميدتي” متهمة بارتكاب عدد من الانتهاكات فضلا عن سمعتها السيئة في دارفور وفي مناطق أخرى” فيما وجهت “المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين” طلبا للمحكمة الجنائية الدولية بإدراج “حميدتي” ضمن قوائم المطلوبين لدى المحكمة وتقديمه للعدالة.
وتحولت قوات “حميدتي” التي ولدت من ميليشيات “الجنجويد” التي تعني “الجن” أو “الشياطين على الخيول”، إلى حليف للاتحاد الأوروبي في محاربة الهجرة غير الشرعية من إريتريا وإثيوبيا، الأمر الذي نفاه الاتحاد الأوربي، لكن “حميدتي” هدد الاتحاد في خطاب بوقف التعاون إذا لم يعترف علنا بتعاونه مع قواته، وهو ما اعتبره مراقبون اعترافًا بـ”شرعية قوات سيئة السمعة”.
وحتى عام 2017 كانت قوات “الدعم السريع” تابعة لجهاز الأمن والمخابرات ثم أصبحت تابعة لمؤسسة الجيش، بالرغم من أن معظم منتسبيها ليسوا عسكريين.
ومع بداية الحراك في بعض المحافظات الجنوبية في السودان استدعى البشير بعض قوات “حميدتي” لتأمين العاصمة الخرطوم من أي اضطرابات، فيما حاول “حميدتي” كسب ود البشير أكثر عندما ألقى القبض على عدد من المتظاهرين فيما حدثت صدامات معهم بعد ذلك، لكنه في كل الأحوال نشر قواته في العاصمة والتي استغلها فيما بعد في إطاحة معلمه البشير.
وكان “حميدتي” أحد القادة الذين طالبوا البشير بالرحيل بحديث مباشر معه، وظهر في مقطع فيديو قال فيه إن البشير أمره بالتعامل الخشن مع المتظاهرين، وقتل الآلاف منهم حتى تستتب الأمور، لكن “حميدتي” يقول إنه رفض هذا الأمر من البشير وطالبه بالرحيل.
ولم يظهر التآلف والتجانس بين أعضاء المجلس العسكري، فخلال الأسابيع الأولى من تشكيل مجلسهم، انقلبوا على ستة من زملائهم وأبعدوهم من عضوية المجلس.
بعدما برز اسم “حميدتي” في السودان سعت دول إلى ضم “حميدتي” إلى صفها، حيث تمركز 20 ألفا من قواته في الحرب اليمنية ضمن قوات “التحالف العربي” .
وبدعم من اطراف عربية أصبحت “قوات حميدتي”، قوة عسكرية موازية للجيش السوداني وأمرا مفروضا لا يمكن تجاوزه، وبدا وكأن “حميدتي” هو من يمسك بدفة القيادة بعد توقيعه، ممثلا للمجلس العسكري، على “الإعلان الدستوري” مع “قوى الحرية والتغيير”.
شغل منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، وكانت “قوات الدعم السريع” عائقا للانتقال السلمي للسلطة و مدنية الدولة و سيادة القانون.
اختلف “حميدتي” لاحقا مع البرهان بسبب خطة دمج “الدعم السريع” في جيش واحد، وأعلن التمرد على الجيش السوداني في عام 2023، وقد وصف حربه بأنها ضد “الإسلاميين المتطرفين ولتحقيق الديمقراطية والحكومة المدنية”؛ وذلك بهدف كسب ود الولايات المتحدة والغرب ودولة خليجية، على الرغم من نهج أفراد تلك القوات من القتل خارج نطاق القانون، الاغتصاب، سرقة المال العام متمثلا في مقدرات السودان من الذهب واحتلال بيوت وأموال المواطنين، وتخريب المؤسسات الوطنية بما فيها متحف السودان القومي، تهريب المخدرات.
بالإضافة إلى عدم مهنية تلك القوات فقد التحقت بهذه المليشيا أعداد من المرتزقة الأجانب إلى صفوفها من النيجر ومالي وتشاد.
ورغم أن الصراع المسلح بين “الدعم السريع” والجيش النظام والحكومة المعترف عربيا ودوليا كان يتبدل بين مد وجزر بين الطرفين، لكن سيطرت “الدعم السريع” على معظم أحياء مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، غرب السودان، في هجوم واسع شهد عمليات عنف واغتيالات وعمليات قتل على أساس عرقي، حسب مصادر طبية وميدانية محلية، وجعلت السودان في دائرة الحدث بشكل يوازي أو يفوق ما يجري في غزة.
ووصفت “لجان مقاومة الفاشر” الوضع بأنه “أسوأ أنواع التطهير العرقي” للمدنيين الفارين من المدينة. ووصفت الفاشر بأنها المدينة التي “دافعت عن الجميع تلقت الخذلان”، مشيرة إلى أن ما يجري في الفاشر “يتجاوز حدود المعارك العسكرية” فالخوف بات “يملأ الشوارع ووجوه النساء والأطفال”، بحسب هذه اللجان.
ودعت جهات طبية ومنظمات حقوقية محلية في بياناتها المجتمع الدولي والأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والمؤسسات الحقوقية إلى “التحرك الفوري والفعال لوقف المجازر وحماية المدنيين ومحاسبة الجناة”.
ويعد هذا التطور نقطة تحول في الحرب السودانية المستمرة منذ عام 2023، حيث يسيطر “الدعم السريع” الآن على نحو نصف مساحة السودان، مما يعزز من احتمال تصعيد التوترات مع مصر التي تدعم القوات المسلحة السودانية سياسيا وعسكريا، بينما تحظى “الدعم السريع” بدعم دولة أخرى، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى التقسيم، وهو السيناريو الأكثر إثارة للمخاوف والقلق، فيما يبدو “حميدتي” رقما صعبا تحتاج إزاحته من المشهد إلى تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة، وضغوط أممي ودولي وإقليمي، وإعادة بناء ورسم للمشهد السياسي في السودان!

