من وحي كرة القدم // د. حفظي اشتية

أبدع ” مصطفى صادق الرافعي ” على مدى ثلاث سنوات مئات من أروع المقالات الأدبية والسياسية والاجتماعية….وأودعها في كتابه الفذّ الفريد بعنوان ” وحي القلم “، في ثلاثة أجزاء، بألف ومئتي صفحة، وها قد داهمتنا أحوال يُكتب فيها من وحي القدم، ولا عجب، فلكل مقام مقال، و” لكل شرّاي بضاعة وسوق “، ولكل زمان دولة ورجال.

لعبة مجنونة سحرت العالم، وغدتْ بها شعوب الدنيا مهووسة مفتونة، وإلى عهد ليس ببعيد، كنّا في عالمنا العربي نراها حلما بعيد المنال، وترفا حضاريا باذخا، وميسما خاصا لأمم سبقتنا وتسامت عنا، وتفوقت علينا.

ثم سرتْ فينا نسمة التقليد، ودبّت حمّى المنافسات المحلية، وما لبثتْ أن توسعتْ ليكون لفرقنا العربية اسم متقدم وإنجاز مشهود في قارتي آسيا وإفريقيا، وسرعان ما طمحت ليكون لها مجرد ذكر وحضور في مباريات كأس العالم، فتحقق لها ذلك وتراكم، وها نحن في زمان أصبح فيه كأس العالم عربي الوجه واليد والقدم واللسان، وأصبحت فيه بعض الفرق العربية تطيح بكبرياء أعظم الفرق العالمية، وتنتزع منها هيبتها، وافتتان العالم بها.

ولأن للناس في هذا الشأن مذاهب شتّى، ولأن كل حزب بما لديهم مقتنعون، فإننا نعلن بداية عدم خلافنا الصارخ مع من يرى السلبيات بأن هذه لعبة عبثية إلهائية تشغلنا عن مهامنا الجدية، وهمومنا القومية والوطنية، وأن الأموال الهائلة المهدورة على استضافة كأس العالم كان ينبغي توجيهها نحو بناء الإنسان العربي : عقلا وصحة وتعليما واقتصادا وتصنيعا…. فذلك في ظاهر الأمر صحيح لا مراء فيه، لكن من يبحث عن الإيجابيات لن يعدم، وسيجدها حيثما تلفّت وتفكّر : فالمليارات التي صُرفت لم تذهب هدرا، بل أثبتت أن جزيرة عربية صغيرة بحجم قبضة يد قد استقطبت العالم، كل العالم، يحجّ إليها، ويلمس عظمة إنجازها وتفوقها على أعظم الأمم في الإعداد والتنظيم، وينبهر بالوجه العربي الإسلامي الحضاري البهي ليطمس الصورة الشائهة التي لصقت عنا في أذهانهم بأننا طوائف من البُداة والجُفاة والغِلاظ والحمقى يبذّرون أموالهم ببلاهة، فصرخوا بنا ذات نصر كرويّ عليهم : ” عودوا إلى صحرائكم وجِمالكم “، فكانت النتيجة أننا أتينا بهم أجمعين طائعين أو مُكرَهين ليشهدوا سحر صحرائنا، وسموّ حضارتنا، وشرف أخلاقنا، وعلوّ كبريائنا.

نعم، صُرفت مليارات، لكنها لم تذهب بددا، ولم ينهبها فاسدون جشعون من أفواه الجائعين.

عشرات وعشرات من السنوات مرّت، ونحن نحاول جادّين أو مخاتلين مخادعين، أو منافقين مجاملين إحياء فكرة الوحدة العربية، لنجد أنفسنا أخيرا نقف على حصاد الهشيم، فإذا بنا نقتتل شعوبا وقبائل على فتات الزعامات، وفتن الطائفية والخيانات، ونخوض فيما بيننا حروبا ضارية لا تبقي ولا تذر، وتفتك بالبشر والشجر والحجر، فما أشدّ بأسنا بيننا!!!! تتهاوى آلاف الهامات من أجل شسع نعل كُليب، لكننا أمام أعدائنا الحقيقيّين لا نصمد أياما أو بضع ساعات، فما أجدرنا بعد هذا الطواف السرابي السرمدي أن نلوذ بما يوحدنا، ولو كان كرة، مجرد كرة، تجعلنا جميعا نبكي معا فرحا أو ألما في اللحظة نفسها وللسبب نفسه، ونتمسمر أمام الشاشات بقلوب خافقة لأقدام فريق عربي يعيد تذكيرنا بفتكات خالد، وحزم الحَجّاج، ودهاء عمرو، وحكمة معاوية، وسنابك حصان عقبة في الأطلسي، ومغامرة صقر قريش في الأندلس، وصرخات الغافقي على جبال فرنسا، وقدمَيْ قتيبة بن مسلم تجوسان سور الصين، وتدوسان ترابها المُهدى إليه من ملكها في صحاف الذهب برّا باليمين!!!

نعم، إذا لم تستطع القيادات توحيدنا، فلْتوحدنا الكرة خلف فريق عربي واحد موحّد من الدوحة إلى طنجة، ومن الخرطوم إلى حلب، نعيد معه وله ترديد نشيد :

بلاد العُرْب أوطاني                    من الشام لبغدان

ومن نجدٍ إلى يمنٍ                      إلى مصرَ فتطوان……..

ذلك النشيد الذي كان يتسلل إلى دمائنا، ويتغلغل في أعماقنا، ويسري في كياننا، ثم أصبحنا مِزَقا تُفنينا حرب شعواء في كل عشيرة وطائفة، ونردد ” هوبرات ” غنائية حماسية جوفاء خاصة بكل حي وشارع وزقاق، ونلتهب بالحمّى القاتلة تشجيعا مَرَضيا لفرق محلية هزيلة ترقص في العتمة، ونرقص معها رقصة الحبشي الذبيح، وكأس المنايا تدور حولنا، وتلفّ بنا من كل حدب وصوب، وسيوف الأعادي تجزّ رؤوسنا تباعا، ونحن سكارى حتى الثمالة بفرقتنا وتشرذمنا!!!!

يا ويحنا!!! لم يوحدنا الدين ولا اللغة ولا القوم ولا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الألم ولا الأمل ولا الحلم……لم يوحدنا شيء من ذلك!!!! فلتوحدنا الكرة، ولتشعل فينا الروح العربية القومية الحماسية، ولنمرّغ أقدام أعدائنا ومستعمرينا في تراب صحرائنا، إن لم نتمكن من تمريغ أنوفهم في سوح الوغى، ولننتصر عليهم في ميدان اللعب، كما انتصروا علينا في ميدان الحرب، ولنتزع الصدارة منهم، ولنصرخ في وجوههم بلسان أبي فراس الحمداني :

ونحن أناسٌ لا توسّطَ بيننا               لنا الصدرُ دون العالمينَ أو القبرُ

أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا         وأشرفُ مَن فوق الترابِ ولا فخرُ

وما يدريك، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ولعل انتصاراتنا الكروية تقودنا في قابل الأيام إلى انتصارات في شتى الميادين، وتعيد إلينا الأنفة والعزة القومية والحميّة، فنخلع رداء الذل والهوان، وتتعالى الدقات على جدران الخزان، ليخرج المارد العربي، ويدخل إلى هيئة ” عصبة ” الأمم ذات يوم مسربلا بالعز مكللا بالغار والفخار، تسترق العيون النظر إليه، وتغضي من مهابته، وتتزعزع قلوبها من خشيته والفزع منه، وهو يتقدم نحو الطاولة، لا ليضربها بحذائه كما فعل ” خروتشوف “سنة 1960م، بل ليقلبها بعنفوان وغضب رأسا على عقب، ويصرخ فيمن أذاقونا كل الألوان من كؤوس الهوان قائلا : ها قد عدنا!!!

بينما هاتف يملأ أرجاء المكان، يصدع القلوب، ويصكّ الآذان، يخاطب القوم ساخرا مفاخرا بشعر جرير بن عطية التميميّ :

فَغُضَّ الطرفَ إنك من”علوجٍ”         فلا كــعباً بلغتَ ولا كِلابــا

إذا غضــبتْ عليك بــنو تمــيمٍ         حسبتَ الناس كلَّهمُ غِضابا

 

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة