-هل سنتوقّف يومًا عن الذهاب إلى المدرسة؟ // سعيد ذياب سليم

1. لماذا تغيّر مفهوم “التعليم”؟
كان الزمن داخل الحصة الدراسية عندما كنتُ طفلًا يتحرّك ببطء يبعث على الضجر؛ دقائق ثقيلة تُجرّ كما تُجرّ السلاسل، وصفوف تمتدّ بعد الطابور الصباحي كأنها رحلة إلزامية لا مفرّ منها. كانت الساحة لحظة سلام قصيرة قبل العودة إلى القاعات المزدحمة، حيث التلقين هو سيد الموقف، والعقاب جزء من “عدّة التدريس”، حتى بدا بعض الحصص وكأنها امتدادٌ لعقوبة لا تنتهي.
ومع توالي التجارب التربوية من ــ التعليم من أجل اقتصاد المعرفة، إلى التعلّم التعاوني، إلى العصف الذهني، ثم التعليم الإلكتروني عبر المنتديات والبريد الإلكتروني ــ ظلّ المعلم هو المحرك الذي يدير العملية، وكان من النادر أن تجد المعلم المبدع والملهم لتلاميذه،.
كانت الأمنية المشتركة لدى كثير من الطلاب: أن تطول الإجازة قليلًا… أو كثيرًا.
لكن في زمن السرعة الرقمية، لم يعد سؤال “هل سنكفّ عن الذهاب إلى المدرسة؟” مجرد أمنية طفل يريد الهروب من الحصة؛ بل أصبح سؤالًا واقعيًا يطرحه الأهل والطلاب:
هل ستظلّ المدرسة على هيئتها القديمة؟
أم أنّ التعلّم صار مدعوًّا ليتغيّر ويتجدّد؟
الجواب يكمن في التحوّلات الكبرى المتسارعة: ثورة رقمية، ذكاء اصطناعي، وسوق عمل يطلب مهارات جديدة لا مجرد معلومات محفوظة. وهنا يتكوّن السؤال الأعمق: ما الذي حدث للتعليم؟
2. تحولات العصر: هل تغيّرت المدرسة نفسها؟
في مكتبة كلٍّ منّا كتابٌ ما زلنا نؤجّل قراءته إلى وقت لاحق، ربما لأننا نشعر أن الزمن طويل بما يكفي لنؤجل كل شيء… وكأنما الزمن ثوبًا فضفاضًا يعيق حركتنا. لكن هل ما زال هذا الإحساس واقعيًا أمام موجة التغيير الحالية؟
لقد شهدت البشرية موجات هائلة غيّرت وجه العالم: من الصيد إلى الزراعة، ثم الثورة الصناعية، ثم سباق الفضاء الذي أعاد تشكيل مناهج العلوم والرياضيات، وصولًا إلى ثورة النانو والطب والمعلومات والذكاء الاصطناعي.
واليوم نقف أمام موجة أشبه بـ”تسونامي ”معرفي وتكنولوجي، تتلاحق أمواجه بسرعة تفوق قدرتنا على التقاط الأنفاس. كل ذلك يضع المدرسة في قلب سؤال مصيري:
هل ستبقى المدرسة التقليدية كما هي؟
نحن لا نرفض المدرسة… بل نرفض مدرسة بلا روح.
لكنّ السؤال لا يتعلّق ببقاء المبنى من عدمه، بل بنوع المدرسة التي تستحق أن تستمر.
مدرسةٍ لا تُقصي الطالب الخجول، بل تمنحه لغةً آمنة، ولا تُحوّل الصف إلى قاعة صمت، بل إلى مساحة حوار ونقاش.
مدرسة يجد فيها الطالب صديقًا، ويجد في المعلّم إنسانًا لا مجرّد مُقيِّم للامتحانات.
إن لم تكن المدرسة كذلك، فلن ينقذها تحديثٌ تقني، ولن يعوّض غيابها أي بديلٍ رقمي.
3. هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون مدرسة كاملة؟
قد تبدو الفكرة مغرية: جهاز ذكي يشرح ويصحّح ويرافق الطالب خطوة بخطوة، كأنه “معلّم شخصي”.
ماذا يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديمه؟
• تعلّم مخصّص: يفهم مستوى الطالب ويقدّم الدروس بالطريقة التي تناسبه.
• معلومات لا تنتهي: تُحدّث نفسها باستمرار وتقدّم الشرح لحظة بلحظة.
• تقييم فوري: يصحّح الأخطاء ويقترح التحسينات مباشرة.
لكن… ماذا يعجز عنه؟
• العالم الإنساني: الصداقة، التعاون، حلّ النزاعات، تهذيب الأخلاق والتعاطف … كلها تُصنع في ساحة المدرسة.
• التجربة الحيّة: مختبرات، ملاعب، ورش فنيّة، مناظرات… لا يمكن محاكاتها بالكامل.
• الانضباط والسلوك: الالتزام، العمل الجماعي، احترام القوانين ــ قيم لا تُكتسب وأنت وحدك.
فالذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يكون مدرسة، لأنه يقف عاجزًا أمام ما تصنعه المدرسة من قيم وعلاقات وتجارب يصعب نسخها رقميًا، مهما بلغت التقنيات من تقدم.
ومع كلّ ما فرضه هذا التحوّل الرقمي، برزت تحديات أخرى لا تقل أثرًا.
ولم تعُد المدرسة وحدها المسؤولة عن تشكيل عقول الطلبة وقيمهم؛ ففي زمن العولمة، أصبح العالم كلّه يدخل إلى حقائبنا المدرسية من خلال الشاشات. فثورة المعلومات لم تأتِ وحدها، بل رافقتها ثورة قيم وسلوكيات عالمية تتدفّق إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتمنح الطلاب صداقات افتراضية، وتجارب جديدة، لكنها أكثر خفةً وأسرع زوالًا من التجربة الواقعية. وهنا تقف المدرسة أمام تحدٍّ جديد: كيف تحافظ على دورها في بناء الإنسان في عالمٍ صار مفتوحًا بلا حدود؟
4. لماذا لن تختفي المدرسة؟
لأن المدرسة ليست “مكانًا لتعبئة العقول”، بل مساحة لبناء الإنسان.
في المدرسة تعلّمنا فنّ المواطنة والانتماء للمجتمع، وتعلّمنا كيف نكون جزءًا من جماعة، لا مجرد أفراد معزولين. هناك، في الفصول والساحات، تشكّلت ملامح علاقاتنا الأولى مع العالم من حولنا.
وتعلّمنا أيضًا فن الخطابة والتمثيل والجرأة الأدبية. بعض المعلمين الرياديين لم يكتفوا بشرح الدروس، بل فتحوا لنا أبواب المسرح المدرسي، والدراما الإبداعية، والموسيقى، والقراءة، والسينما ــ بواباتٍ واسعة نحو التعبير عن الذات، واكتشاف الصوت الداخلي لكل واحد منا.
ومدرسة المستقبل ــ بعد كل هذا التسارع الرقمي ــ لن تكون مكانًا لحفظ المعلومات، بل ورشةً كبرى لصناعة المهارات، وستركّز على:
1. بناء الشخصية: الإبداع، التفكير النقدي، الذكاء العاطفي.
2. قيادة التعاون: مشاريع فريق، مناظرات، نشاطات اجتماعية.
3. غرس القيم والهوية: الثقافة، الأخلاق، والانتماء الوطني والإنساني.
الذكاء الاصطناعي سيصبح أداة قوية بين يدي المعلّم، لا بديلًا عنه، وسيسمح له بالعودة إلى دوره الحقيقي:
إنسان يعلّم إنسانًا.
خاتمة
ربما يتغيّر شكل المدرسة، وربما تتبدّل قاعاتها ووسائلها، لكن جوهرها سيبقى واحدًا: أن تجمع الأطفال معًا ليتعلّموا كيف يصبحون بشرًا أفضل. فالمدرسة ليست مبنًى نذهب إليه، بل تجربة نكبر بها، ومختبر تتكوّن فيه ذواتنا الأولى.
وفي عالمٍ يتسارع فيه كل شيء، تبقى المدرسة هي المكان الوحيد الذي يعلّمنا ما لا يعلّمه أي جهاز:
فنّ العيش… وفنّ أن نكون بشرًا.
سعيد ذياب سليم

