“وُلدنا جريئين”… حملة عالمية لكازاخستان تعززالهوية الوطنية نحو المستقبل

بقلم الدكتور: عبد الرحيم إبراهيم عبد الواحد
أستانا – في لحظة مفصلية من تاريخها المعاصر، وفي سياق متغيرات عالمية متسارعة، أطلقت جمهورية كازاخستان حملة إعلامية دولية جديدة تحت شعار لافت وملهم: “وُلدنا جريئين” (Born Bold). لم تكن هذه الحملة مجرد تحرك ترويجي دعائي تقليدي، بل جاءت كجزء من رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة تقديم كازاخستان إلى العالم كدولة واثقة، طموحة، منفتحة، وفاعلة في مختلف المجالات. فهي تعبّر عن هوية وطنية حديثة، وتترجم تحولات داخلية عميقة، وتُعلن عزم البلاد على الانطلاق بثبات نحو المستقبل، متسلحة بإرثها الثقافي الغني، وبشعبها الشاب والمبدع، وبمواردها الاستراتيجية الهائلة.
يمكن القول بأن حملة “وُلدنا جريئين” تعبر عن رؤية متكاملة لوطن يسعى إلى تجاوز التحديات، ويطمح إلى بناء مستقبل أكثر ازدهارًا وعدالة. إنها رسالة من كازاخستان إلى العالم: نحن جيل جديد من الدول، نملك الجرأة على الحلم، والشجاعة على التنفيذ، والإرادة على مواصلة التقدم.
تتميز هذه الحملة، التي تشرف عليها الحكومة الكازاخية وتنفذها بالشراكة مع وكالة Kazakh Invest وبدعم من خبراء دوليين في مجال تسويق الدول وجذب الاستثمار، بأنها تختلف عن الحملات التقليدية من حيث الجوهر والشكل. فهي لا تركز فقط على إبراز نقاط القوة الاقتصادية أو الجغرافية أو السياحية، بل تضع في صميم رسالتها الإنسان الكازاخي نفسه: ذاك الشاب الطموح، المتعلم، المتمكن من أدوات العصر الرقمي، والذي يُعدّ بحقّ محرك التحول الذي تشهده البلاد. وتُظهر الحملة هذا الجيل الجديد بوصفه القوة الكامنة التي ستقود كازاخستان في العقود القادمة إلى مصاف الدول المتقدمة.
إن جذور هذا التوجه الجديد تعود إلى رؤية الرئيسالكازاخي قاسم جومارتتوكاييف، الذي أكّد في العديد من خطاباته على أن الشعب الكازاخي وُلد شجاعًا بطبعه، وأن روح التحدي والقدرة على تجاوز الصعوبات متأصلة في الشخصية الوطنية. وقد عبّر عن هذا المفهوم بوضوح خلال افتتاح دورة ألعاب البدو العالمية، حيث أشار إلى أن الكازاخ، مثل أسلافهم من الرحّل، يتحلون بالشجاعة، والمثابرة، والقدرة على التأقلم مع التحولات الكبرى. ومن هنا جاء اختيار عبارة “Born Bold”، لتكون أكثر من مجرد شعار، بل تجسيدًا لعقلية جديدة ترى في الجرأة على التغيير والتحديث مفتاحًا لتحقيق القفزات التنموية.
على الصعيد الاقتصادي، تنطلق كازاخستان من واقع قوي، إذ تُعدّ اليوم أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، لكنها في الوقت ذاته تسعى إلى تجاوز النموذج الاقتصادي التقليدي القائم على تصدير المواد الخام، متجهة نحو اقتصاد المعرفة والابتكار. وقد سجلت البلاد نموًا بنسبة 5.1% في عام 2023، وهي تستهدف مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ 450 مليار دولار بحلول عام 2029، من خلال تحقيق نمو سنوي يتراوح بين 6 و7 بالمئة. وترتكز هذه الاستراتيجية على تطوير قطاعات واعدة مثل الطاقة المتجددة، الذكاء الاصطناعي، الرقمنة، والخدمات المالية.
وفي هذا السياق، تلعب الطاقة دورًا محوريًا، حيث تمتلك كازاخستان إمكانات هائلة في مجال الطاقة النظيفة، لا سيما طاقة الشمس والرياح، إلى جانب كونها أكبر مصدر عالمي لليورانيوم، ما يؤهلها لتكون فاعلًا رئيسيًا في المرحلة الانتقالية العالمية نحو اقتصاد منخفض الكربون. كما تتطلع البلاد إلى تصدير الطاقة الخضراء إلى أوراسيا عبر ممرات جديدة مثل “الممر الأخضر الأوسط”، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي، ومن شبكة البنية التحتية المتطورة التي تربطها بالصين، وأوروبا، وروسيا، وجنوب آسيا.
أما من ناحية البيئة الاستثمارية، فقد اتخذت كازاخستان خطوات ملموسة لجذب الاستثمارات الأجنبية وتحسين مناخ الأعمال، عبر إصلاحات قانونية وتنظيمية، وتطوير مراكز مالية متقدمة، على رأسها مركز أستانا المالي الدولي AIFC، الذي يعمل وفق نظام القانون العام الإنجليزي، ويوفر بيئة أعمال تنافسية، وآلية تحكيم مستقلة، ومحكمة دولية. وقد جذبت البلاد منذ الاستقلال أكثر من 440 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتخطط لجذب 150 مليار دولار إضافية بحلول عام 2029، لدعم مشاريع البنية التحتية، والطاقة، والتكنولوجيا، والصناعة.
في مجال النقل واللوجستيات، تحتل كازاخستان موقعًا حيويًا يربط بين الشرق والغرب، وتُعدّ اليوم نقطة عبور رئيسية لأكثر من 80% من حركة النقل البري بين آسيا وأوروبا. وتعمل الدولة على تطوير 13 ممرًا دوليًا، منها خمسة ممرات سككية وثمانية طرق برية، بهدف تعزيز مكانتها كمحور تجاري عالمي. ويبرز في هذا السياق “ممر النقل الدولي العابر لبحر قزوين” المعروف بـ”الممر الأوسط”، الذي يشهد نموًا مطردًا، وتشارك فيه كازاخستان مع شركاء دوليين من أوروبا والصين وآسيا الوسطى. وتسعى الدولة إلى تطوير موانئ بحر قزوين، والموانئ الجافة، وسلاسل التوريد، وصناعات بناء السفن، بما يعزز قدرتها على التحكم في حركة التجارة الإقليمية.
ولا تغيب قضايا المناخ والاستدامة عن رؤية كازاخستان المستقبلية، إذ أعلنت خلال مشاركتها في مؤتمر COP28 بدبي عن انضمامها إلى شراكة الانتقال العادل للطاقة، وأكدت التزامها بالعمل على خفض الانبعاثات وتحقيق الحياد الكربوني في المدى الطويل. كما بادرت إلى إنشاء مكتب إقليمي لقضايا المناخ والطاقة الخضراء في ألماتي، وتستعد لاستضافة قمة إقليمية للمناخ عام 2026 بالتعاون مع الأمم المتحدة. ويعكس هذا التوجه وعيًا متزايدًا بأهمية القضايا البيئية، ودور الدولة في الإسهام في الحلول العالمية.
وفي سياق موازٍ، تتبنى كازاخستان أجندة طموحة في مجالي الأمن المائي والغذائي، حيث تعاني العديد من مناطق آسيا الوسطى من تحديات تتعلق بندرة المياه وتقلص الموارد الزراعية. وقد أعلنت عن تنظيم “قمة الماء الواحد” بالشراكة مع فرنسا، بهدف دفع الحوار العالمي حول هذه القضايا. كما تسعى إلى تعزيز صادراتها الغذائية، خصوصًا الحبوب، التي تُصدرها حاليًا إلى أكثر من 80 دولة، مع خطط لمضاعفة الإنتاج وتحسين الإنتاجية من خلال التحديث التكنولوجي للقطاع الزراعي.
الرقمنة تمثل هي الأخرى محورًا استراتيجيًا، إذ تسعى الدولة إلى التحول إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا والابتكار، مع توقعات بخلق أكثر من 150 ألف وظيفة في الاقتصاد الرقمي. وقد تم تصنيف كازاخستان ضمن أفضل 30 دولة من حيث استخدام التكنولوجيا الرقمية، وفق تقييمات الأمم المتحدة. وتعمل الحكومة على توفير بنية تشريعية داعمة للذكاء الاصطناعي، وتحفيز التعاون الدولي في مجالات البحث والابتكار.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فتتبنى كازاخستان نهجًا دبلوماسيًا قائمًا على الحوار والتوازن، وتلعب أدوارًا بناءة في حل النزاعات الإقليمية والدولية، مثل وساطتها في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، ومساهمتها في الاتفاق النووي الإيراني، وقيادتها لعملية أستانا بشأن الأزمة السورية. وقد ترأست البلاد خلال عام واحد ست منظمات إقليمية ودولية، ما يعكس مكانتها المتنامية في الساحة الدولية.
وفي قلب هذه الدينامية، تبقى الثقافة والتعددية حجر الزاوية في الهوية الكازاخية. فقد نجحت البلاد في بناء نموذج فريد يجمع بين الانتماء الوطني والتنوع الثقافي، حيث يعيش على أرضها أكثر من 130 مجموعة إثنية في وئام وسلام. وتُشجع السياسات الوطنية على احترام الثقافات واللغات المختلفة، ضمن إطار من المواطنة المشتركة والانتماء الجماعي.
سياسيًا، تشهد البلاد موجة غير مسبوقة من الإصلاحات الدستورية والمؤسسية، شملت تعديل ثلث مواد الدستور، وتوسيع الحريات، وتعزيز دور البرلمان، واستحداث المحكمة الدستورية، وترسيخ حقوق الإنسان بالتعاون مع مؤسسات دولية. وقد وُضعت خطة عمل شاملة لحقوق الإنسان وسيادة القانون، تُنفّذ بالتنسيق مع المجتمع المدني والأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
حتى في المجال الرياضي، تسعى كازاخستان إلى تعزيز مكانتها الدولية، بعد أن استضافت مؤخرًا دورة ألعاب البدو العالمية، وتخطط لاستقطاب فعاليات رياضية كبرى وتوسيع الاستثمار في السياحة الرياضية، بما يعزز من الحضور الدولي للبلاد ويربط بين الرياضة، الثقافة، والاقتصاد