3 ملفات بالمرصاد.. “النواب” أمام “الضمان” و”العمل” و”الإدارة المحلية”

على الرغم من أهمية إقرار مجلس النواب مشروع قانون الموازنة العامة للدولة عن السنة المالية 2026، غير أن ذلك لا يعد نهاية للملفات الثقيلة الجاثمة على طاولة المجلس، وإنما بداية لمرحلة أكثر تعقيدا وحساسية، حيث سينتقل مجلس النواب من نقاش الأرقام والعجوزات إلى مواجهة مباشرة مع تشريعات تمس جوهر البعد الاجتماعي للمواطن.
فبعد الموازنة، يقف النواب أمام ملف ثقيل لا يحتمل الترحيل أو المعالجة السطحية، متمثلا بمشروع قانون الضمان الاجتماعي، وما يترتب عليه من انعكاسات متشابكة مع قانون العمل، إلى جانب قانون الإدارة المحلية الذي عاد ليطرح نفسه كعبء مؤجل طال انتظاره، فيما ما تزال فكرة تعديلات دستورية محدودة مجرد فكرة غير ناضجة بالكامل، وربما لو نضجت ستكون في نهاية الدورة أو في دورة استثنائية تخصص لذلك.
تلك الملفات الثلاثة الثقيلة، والتي يتوقع إرسالها من الحكومة خلال الشهر المقبل، مع إمكانية سحب مشروع معدل قانون الضمان من الأعيان وإرسال معدل جديد يتماشى مع مخرجات الدراسة الاكتوارية التي أعلنت عنها مؤسسة الضمان الاجتماعي مؤخرا، والتي كانت صادمة رقميا.
إذا بكل وضوح، فإن ملف الموازنة يعتبر الأقل خطورة مقارنة بالملفات الثلاثة تلك؛ لأن القوانين المطروحة اليوم لا تُقاس فقط بسلامتها الدستورية أو انسجامها التشريعي، بل بقدرتها على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ومنع اهتزاز الثقة العامة.
ومن هنا فإن الأمر البديهي الذي تتوجب معرفته من قبل أعضاء المجلس، أنهم لا يناقشون نصوصا جامدة، وإنما يتعاملون مع مخاوف حقيقية لدى شرائح واسعة من المواطنين، في ظل أوضاع اقتصادية ضاغطة وارتفاع كُلف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية.
“الضمان أولا”
مشروع قانون الضمان الاجتماعي الذي تعده الحكومة وسترسله للتشريع قريبا، بعد استكمال مرحلة الحوار التي أعلنت أنها ستفتحه مع الأطراف المعنية، سيكون هو القانون الأكثر إثارة للجدل والأثقل سياسيا.
فما تضمنته الدراسة الإكتوارية الأخيرة من معلومات وأرقام صادمة أعاد فتح ملف كان يُدار في الغرف الفنية المغلقة، ليصبح مادة نقاش عام تتقاطع فيها الحسابات المالية مع الهواجس الاجتماعية.
الدراسة الإكتوارية بما حملته من مؤشرات مقلقة حول الاستدامة المستقبلية، وضعت النواب أمام مسؤولية تاريخية: إما معالجة الخلل مبكرا وبعقل بارد، أو ترحيل المشكلة إلى أجيال قادمة بثمن أعلى، ولكن مع أهمية الوقوف على الأسباب الحقيقية التي أوصلتنا إلى هذا الموضع من القلق.
ولهذا فإن الإشكال الأساسي لا يكمن في مبدأ الإصلاح، بل في أدواته وتوقيته وحدوده؛ فالمواطن الذي يدفع اشتراكاته منذ سنوات طويلة لا ينظر إلى الضمان بوصفه صندوقا ماليا فحسب، بل كضمانة لحياة كريمة عند التقاعد أو العجز، وأي حديث عن تعديل شروط الاستفادة أو إعادة هيكلة المنافع، مهما كان مبررا، يُستقبل بحساسية عالية ويُقرأ أحيانا كمساس بحقوق مكتسبة، وهذا الواقع سيجعل النواب في مواجهة مباشرة مع الشارع، حيث لم يعد ممكنا تمرير أي تعديل دون نقاش عميق وشفافية كاملة.
ويزداد العبء النيابي حين يُنظر إلى الضمان باعتباره لاعبا اقتصاديا كبيرا، وصاحب استثمارات واسعة وتأثير مباشر في السوق، فالقرار التشريعي هنا لا ينعكس فقط على المتقاعدين والمشتركين، بل يمتد أثره إلى الدورة الاقتصادية ككل، ولهذا فإن أي خلل في المعالجة قد ينعكس سلبا على الثقة بالمؤسسات وعلى الاستقرار المالي والاجتماعي في آن واحد.
تشابك وثيق
ولا تقف التخوفات عند هذا، وإنما تتضاعف التحديات مع التشابك الوثيق بين قانون الضمان الاجتماعي وقانون العمل، فالتعديلات التي تطال أحدهما تنعكس تلقائيا على الآخر، سواء من حيث كلفة التشغيل، أو تنظيم سوق العمل، أو حماية حقوق العمال، ولهذا من الطبيعي أن يجد النواب أنفسهم أمام معادلة دقيقة تتطلب موازنة متقنة بين حماية العامل وعدم إرهاق صاحب العمل، وبين توسيع مظلة الحماية الاجتماعية وعدم دفع السوق نحو مزيد من الانكماش أو التهرب من التشغيل المنظم.
وفي الغرف المغلقة، يعرف الجميع أن المعالجة، حتى يتم الحفاظ على الضمان لمدة أطول، يجب أن تكون شاملة؛ إذ إن أي معالجة جزئية أو متسرعة ستؤدي إلى نتائج عكسية، كتراجع فرص العمل أو توسع الاقتصاد غير الرسمي، وهو ما يضعف أساسا أهداف الضمان والعمل معا، ومن هنا، فإن المسؤولية لا تتعلق بإقرار نصوص قانونية فحسب، بل ببناء منظومة متكاملة تراعي الواقع الاقتصادي وتستشرف تداعيات القرارات على المدى المتوسط والطويل.
“الإدارة المحلية” بالمرصاد
ولا يقف النواب في دورتهم الحالية أمام ملفي الضمان والعمل فقط، بل سيواجهون إلى جانبهما ملفا مهما أيضا هو قانون الإدارة المحلية الذي يرجح إرساله للنواب نهاية الشهر المقبل أو خلال منتصفه؛ والذي يعد من أبرز القوانين المؤجلة، وأكثرها تأثيرا على شكل العلاقة بين المواطن والحكومة؛ إذ إن غياب إدارة محلية فاعلة ومفوضة الصلاحيات جعل مجلس النواب، عمليا، عنوانا لكل القضايا الخدمية اليومية، وحمّلهم أعباء ليست من صميم دورهم التشريعي والرقابي.
ومع كل تأخير في إقرار قانون عصري للإدارة المحلية، تتراكم القضايا تحت القبة، ويتآكل الوقت والجهد المخصص للتشريع والرقابة.
ولهذا؛ فإن قانون الإدارة المحلية ضرورة لإعادة توزيع الأدوار وتخفيف الضغط عن النواب، وتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بكفاءة ومسؤولية.
في المجمل، فإن ما ينتظر مجلس النواب في هذه المرحلة يتجاوز كونه استحقاقا تشريعيا عاديا، ليصبح اختبارا حقيقيا لقدرة المجلس على إدارة الإصلاح دون كسر الثقة، وعلى التوفيق بين الضرورات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ فكل قرار يُتخذ اليوم سيترك أثره طويلا، ليس فقط على شكل القوانين، بل على علاقة المواطن بالمؤسسات.
ولهذا فإن مجلس النواب أمام موقف حاد يتطلب شجاعة سياسية، وحوارا وطنيا صريحا، وقرارات مدروسة لا تنحاز للأرقام على حساب الإنسان، ولا تُرضي اللحظة على حساب المستقبل، وفي هذا الامتحان، سيكون الحكم النهائي بيد الشارع، الذي يراقب بدقة كيف تُدار القوانين الثقيلة في واحدة من أكثر المراحل حساسية في العمل البرلماني.

