هيفاء البشير… حين تصبح المرأة مرآة الوطن

الدكتور موفق العجلوني
بقلم / السفير الدكتور موفق العجلوني
المدير العام / مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
حين يُصبح الصمت أبلغ من الكلام، ويغدو الانسحاب أصدق أشكال الوفاء…في لحظة لا تشبه سواها، نسجها الحنين والإرادة الجريحة، قدّمت هيفاء البشير، ومعها أعضاء الهيئة الإدارية لجمعية الأسرة البيضاء، استقالة جماعية إلى وزيرة التنمية الاجتماعية، طاوين بذلك صفحةً من العطاء امتدت لأكثر من خمسة وخمسين عامًا، صفحة حُفرت فيها حكايات الالتزام الثابت، حيث ارتُفعت راية الخير دون انتظار لتصفيقٍ أو جزاء.
لم تكن الاستقالة تخلّيًا عن الغاية، بل كانت وفاءً لمعناها، ولم تكن هروبًا من المسؤولية، بل صرخة أخيرة في وجه ما سُمّي “تضييقًا”، حين ضاق المكان عن استيعاب الحقيقة عند قلب الحقائق، وأعرض الزمن عن الاستماع لهمس النوايا الطيبة.
وقد جاء في بيانهم:
“ما فعلناه كان لله أولًا، ولحب الوطن، وللإيمان بالحق… أما وقد ضاقت الأرض بما رحبت، فقد آن للقلب أن يستريح، وللضمير أن يُنصت لصمته.”
كانت لحظة التقاء الإيمان بالفعل مع حكمة التوقف؛ حين رفض الصفاء أن يُروّض، وآثر ألا يمضي في طريقٍ يكبّل الروح بدل أن يحررها. وهكذا مضى أولئك الذين غرسوا البذور، وتركوا وراءهم ظلّ شجرة وارفة، يأملون أن تجد الأجيال القادمة في فيئها مأمنًا، وتحرس جذورها من الذبول، فما زال للخير حُماته، وما زالت الرسائل تجد رُسُلها، حتى وإن تبدّلت الساحات.
ليست كل السير تُروى بالكلمات، ثمة حيّاة تُكتب بصمت الموقف، وتُسجَّل في ذاكرة الزمن لا بما قيل، بل بما صُمِت عنه، هيفاء البشير واحدة من هؤلاء النساء اللاتي لم يحتجن إلى ضوءٍ مسلّط، لأنهن كنّ النور ذاته امرأة خرجت من ضيق التقاليد إلى رحابة المعنى، ارتبطت نشأتها في نابلس، حيث يتنفّس التاريخ من كل زاوية، وتُخبئ الحجارة ذكرياتٍ لا تنضب، مدينة كأنها قصيدة منقوشة في الحجارة، بيوتُها تحفظ الذكرى، وأزقتها تهمس بالحكايات، نشأت في بيتٍ طبعها بالنظام، والكرم، والشعور العميق بالواجب، ومنذ طفولتها قرأت العالم بعينين أوسع من عمرها—عينين قُدّرتا أن تكونا ملجأً للآخرين.
اختارت التعليم طريقًا للمعنى، لا للوظيفة، كتبت الكرامة قبل الحروف، وغرست القيم قبل الكلمات، وُلدت في بيتٍ غُرس فيه النظام والثقافة، ومنذ صغرها حملت حسًا مبكرًا بالمسؤولية، تسلّحت بالعلم لا كزينة، بل كأداة للتغيير، اختارت التعليم لا كمهنة، بل كرسالة، فكتبت الكرامة على السبورة قبل الحروف، وغرست القيم قبل المفردات.
ثم جاء الفقد—ذاك الذي لا يُجيد الناس وصفه لأنه يجرّد الأرواح من أقنعتها، في حادث تحطم المروحية بمعية المغفور لها جلالة الملكة علياء الحسين عام 1977, رحل زوجها، وزير الصّحة الاسبق معالي المرحوم الدكتور محمد البشير، وكان ذلك جرحًا وطنيًا غائرًا في ذاكرة الجماعة، ومع ذلك، وقفت هيفاء—ثابتة، واثقة—مؤمنة أن الرسالة لا تموت بسقوط حاملها.
كان بوسع الحزن أن يُحنيها، لكنه توّجها بالكرامة، لبست الحداد لا كحِمل، بل كأمانة. لم يكن في صوتها مرارة، بل إيمان عميق، وبهذا الصمت بدأت تكتب فصلها الأصدق—أمًّا حانية، ومواطنة فاعلة، وامرأة لا تهتز.
عرفها الناس بالمبدأ لا باللقب، وبالخطوة لا بالخطاب، حضرت حيث نادى المجتمع: في التعليم، وفي التطوع، وفي الصحة، وفي تمكين النساء وجميعها لله تعالي، لم تتقاضى يوما راتب لقاء ذلك، كانت تؤمن أن التغيير لا يُستورد من فوق، بل يُنسج بصبرٍ يومي من خيوط العلاقات الإنسانية.
في كل ظهور إعلامي لها، بدت هادئة، رزينة، تقول ما يلزم فقط، وتُخفي ما لا يُقال خلف نظرة هادئة وعارفة، مثل ما شاهدناه عقب حادث الحريق الذي لحق بدار الضيافة للمسنين الصيف الماضي الذي اودى بحياة ابرياء وتحفّظها عن التقصير الرسمي، وسترت على وجوه اختبأت خلف قناع السّلطة، لأنها بالعادة ليست كلماتها حكايات نسوة فقط، بل صندوق اسود اشبه بذاكرة توثّق رحلات الطائرات وقت الحوادث، وشهادات على صمود وطن صامت.
هيفاء البشير لم تكن اسمًا عابرًا في تاريخ المرأة الأردنية—بل كانت مرآة لمرحلة كاملة، مرحلة كتبت فيها النساء وجودهن من الهوامش، حتى أصبحت الهوامش مركزًا، كانت من أولئك اللواتي لم يُحدثن ضجيجًا، لكن بقي صداهن حيًّا في قلوب الناس.
في كل فصل من فصول سيرة حياتها، كان الوطن حاضرًا—لا كشعار، بل كنداء، في حزنها الصابر انعكس روح الأردن، وفي خدمتها الاجتماعية التطوعية، تجلّت صورة الوطن الحقيقية: كريمة، أصيلة، لا تُقهر.لم تنتظر هيفاء البشير التكريم—لأنها كانت هي التكريم بعينه، كانت سيرة صامتة، أفصح من ألف خطبة.
بعض القصص لا تُروى… بل تكون، بعض النساء كُنّ صوت الأمة حين خرس الجميع، وشهادة التاريخ حين تلعثم، انها امرأة من زمنٍ نبيل، حفرت موقعها لا بالصخب، بل بالحضور الدائم والعمل الصامت الذي أعاد تعريف معنى الرسالة.وحين زارها الحزن، لم تنهَر، بل جعلت من الألم طريقًا، نزف الجرح، لكن الروح لم تتراجع، ربّت أبناءها بسمو من يدرك أن الدموع لا تُنقص الهيبة، وأن أعلى أشكال الوفاء أحيانًا هو الوقار.
خاضت ميادين لم تكن شائعة للنساء في جيلها—أسّست مؤسسات، وكسرت حواجز، ولم تأبه للنظرات المتشككة أو قيود الأعراف، أسّست جمعية الأسرة البيضاء وأول دار للإيواء المسنين في الأردن في سبعينيات القرن الماضي، ساهمت في تأسيس الجمعية الاردنية للتأهيل النفسي، وأنشأت مركز الصفصاف للتأهيل النفسي في اوائل القرن الحالي—ترسم بيديها رؤىً للرعاية تليق بكرامة الإنسان.
لم تطلب مجد، ولم تبحث عن منبر—لكنها كانت دائمًا في الصفوف الأمامية حين يغيب المبدأ ويحتاج الفعل إلى من يتقدّم.قدّمت نموذجًا نادرًا في الجمع بين المعرفة والرحمة، بين العمل المدني والقيادة الهادئة، حملت اسم الأردن برقيّ في المحافل الإقليمية والدولية، قاتلت من الداخل، مؤمنة أن التغيير الحقيقي يبدأ في الفرد، ويزهر حيث تلتقي الإرادة بالوعي.
شاركت في المجالس الوطنية، وقادت المبادرات في ميادين العمل الاجتماعي الانساني التطوّعي، ورفعت أصوات من لا صوت لهم، من المهمشين والمحرومين، رأت في الخدمة العامة واجبًا دائمًا لا امتيازًا، ورسالة لا تُختصر.
ثم جاء الحزن الأكبر: رحيل ابنها البكر، الدكتور مازن البشير.جرح ثانٍ—أعمق، وأشد من جرحها الاوّل، لكن حتى هذا لم يُطفئ نور عينيها—بل عمّقه، كأنها كانت تدرك: أن الحزن إذا لم يتحوّل إلى نور، لم يبقَ إلا ندبة، لم تندب… بل تقدّمت، حملت ألمها كما حملت رسالتها: بكبرياء.
بين فقد زوجها وفقد ابنها امتدّ عمرٌ ملؤه العطاء، والمواقف التي لا تُنسى، والعزيمة التي لا تُكسر، حتى في كبرها، لم تتوقف.ألقت المحاضرات، وأرشدت، وحفّزت، وشاركت—مؤمنةً أن لا تقاعد عن خدمة الإنسان.
قراءة قصتها اليوم ليست مجرّد مرور على سيرة امرأة استثنائية—بل شهادة على فصل خفيّ من تاريخ الوطن، كتبته نساؤه بأيديهن.لقد أثبتت أن القوة ليست في الضجيج، بل في الشجاعة الصامتة للاستمرار حين تتشظى الطرق.كانت امرأةً من نور—تسير في ظلّ وطنها، وتحمله في قلبها كضياء لا يخبو.
هيفاء البشير لم تترك منصبًا، بل تركت أثرًا لا يزول. غادرت بصمت الكبار، بعد أن رفعت سقف المعنى وأعادت تعريف الدور الحقيقي للمرأة في بناء الأوطان. لم تكن استقالتها انسحابًا من المشهد، بل ارتقاء فوق ضجيجه، وموقفًا أخلاقيًا في زمنٍ تتراجع فيه المبادئ أمام المصالح.
في صمتها الأخير، كتبت أكثر فصول سيرتها بلاغة. غادرت المشهد الرسمي لتبقى في ذاكرة الوطن، لا كاسمٍ فقط، بل كقيمة، كرمز، كدرس طويل في معنى الرسالة التي لا تحتاج إلى منبر، لأن حضورها يكفي ليكون وطنًا من نور.
لقد كانت هيفاء البشير زمنًا من nobility النبالة، امرأة تشبه الجذر الذي لا يُرى، لكنه يحمل الشجرة كلها. تمضي اليوم، لتبقى… لا في المناصب، بل في الملامح الكريمة لوجه الوطن.
وأخيراً وليس أخراً، اللهم يا واسع الرحمة، ويا واهب العافية، نسألك بكل اسم هو لك، أن تُلبس السيدة هيفاء البشير ثوب الصحة والعافية، وأن تُمدّ في عمرها في طاعتك ورضاك، وتحفظها بحفظك الذي لا يزول.اللهم اجزِها عن الوطن وأهله خير الجزاء، وبارك في سعيها، وخلّد أثرها، واجعل ما قدّمته نورًا بين يديها، وطمأنينة في قلبها، ورضىً منك يملأ أيامها. اللهم كما كانت للضعفاء سندًا، وللمحتاجين أمًّا، وللوطن روحًا نقية، فاحفظها بعينك التي لا تنام، وامنحها سكينة الروح، وقوة الجسد، وطمأنينة القلب، واجعل كل لحظة من عمرها زيادةً في النور والبركة…. اللهم آمين.
مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me