مؤتمر 1907: بين الحقيقة التاريخية والأسطورة السياسية وتأثيراته على الوطن العربي

د. سمير الزغول
==
بقلم/ الدكتور سمير عبد الرحيم الزغول
مقدمة
يُشار في كثير من الأدبيات السياسية العربية إلى ما يُعرف بـ”مؤتمر كامبل بانيرمان” عام 1907، بوصفه نقطة تحول كبرى في التاريخ الحديث للمنطقة العربية، إذ يُقال إنه وضع اللبنات الأولى لمشروع استعماري هدفه إضعاف الأمة العربية ومنع وحدتها، من خلال تمكين الكيان الصهيوني في فلسطين، والسيطرة على مفاصل المنطقة. فهل كان هذا المؤتمر حقيقة أم خرافة سياسية؟ وما تأثير هذه الرؤية في تشكيل الوعي العربي؟ وكيف انعكست الأفكار التي يُقال إنها نوقشت فيه على واقع الوطن العربي؟
الخلفية التاريخية
مع بداية القرن العشرين، كانت القوى الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، تتسابق للسيطرة على المستعمرات في إفريقيا وآسيا. أما الدولة العثمانية، التي كانت تُعرف بـ”رجل أوروبا المريض”، فكانت آخذة في التفكك. في هذا السياق الجيوسياسي، بدأ التفكير في ترتيب وضع منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا الوطن العربي، الذي يمتاز بموقعه الاستراتيجي وموارده الغنية.
كان هنري كامبل بانيرمان رئيسًا لوزراء بريطانيا بين عامي 1905 و1908، في فترة كانت فيها الإمبراطورية البريطانية في أوج قوتها. ويُقال إنه دعا إلى مؤتمر سري عام 1907 في لندن، جمع فيه ممثلين عن القوى الاستعمارية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، إيطاليا، هولندا، إسبانيا والبرتغال)، لمناقشة مستقبل المستعمرات، وخاصة في العالم العربي.
وقائع المؤتمر: حقيقة أم خيال؟
المثير للجدل أن هذا المؤتمر لم يُعثر على وثائق رسمية واضحة تؤكد انعقاده فعليًا بهذه الصيغة المذكورة في الأدبيات العربية. فالمراجع الغربية لا تذكر “مؤتمر كامبل بانيرمان” كمؤتمر رسمي أو موثق في أرشيف الحكومة البريطانية. ومع ذلك، تداولت كتابات عربية عديدة، لا سيما بعد نكسة 1967، نصوصًا تُنسب إلى هذا المؤتمر، وتصف توصياته بأنها كانت كالتالي:
“هناك شعب واحد يربط بين آسيا وإفريقيا، ويعيش على ثروات عظيمة، يتمثل في الأمة العربية والإسلامية، ويجب تفكيك هذا الرابط عبر زرع جسم غريب يفصل المشرق عن المغرب العربي، ويمنع وحدة هذه الأمة.”
ومن بين أبرز ما نُسب للمؤتمر من توصيات:
• الحيلولة دون قيام أي اتحاد عربي أو إسلامي.
• تقسيم المنطقة إلى كيانات ضعيفة.
• زرع كيان استيطاني غريب (إسرائيل) في فلسطين.
• السيطرة على طرق التجارة والبحار، ولا سيما قناة السويس.
• التغلغل في الشعوب عبر التعليم والثقافة، وإضعاف اللغة العربية.
لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الوثائق لم تُعتمد من جهة أكاديمية محايدة أو أرشيف رسمي بريطاني، ما جعل بعض المؤرخين يعتبرون المؤتمر أقرب إلى “نظرية مؤامرة” استخدمت لتفسير ما جرى لاحقًا في الشرق الأوسط.
الواقع السياسي اللاحق: هل تحققت “توصيات المؤتمر”؟
سواء انعقد المؤتمر بالفعل أم لا، فإن الأحداث التي تلت عام 1907 تدعم إلى حد بعيد “النظرية” التي تتحدث عن مشروع استعماري مدروس:
1. سايكس – بيكو (1916): اتفاق سري بين بريطانيا وفرنسا (وبموافقة روسيا) لتقسيم الهلال الخصيب بين النفوذين الفرنسي والبريطاني.
2. وعد بلفور (1917): تعهد من بريطانيا بإنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين”.
3. الانتداب البريطاني والفرنسي (1920–1948): فرض الانتداب على معظم الدول العربية الحديثة، وتشكيل حدودها بما يمنع الوحدة.
4. زرع إسرائيل في فلسطين (1948): تأسيس كيان استيطاني غريب في قلب الوطن العربي، مما أحدث اضطرابات دائمة في الإقليم.
5. الحروب العربية الإسرائيلية: بدأت منذ عام 1948 ولم تنته حتى اليوم، ما أضعف الدول العربية وأبقاها في حالة استنزاف.
كل هذه الأحداث تتوافق مع ما يُقال إنه نوقش أو أوصي به في مؤتمر 1907، وهو ما جعل الفكرة تترسخ في الوعي العربي، وتصبح جزءًا من السردية الثقافية والسياسية عن “التآمر الغربي”.
البُعد الثقافي والنفسي لفكرة “مؤتمر 1907”
سواء صحت الوثائق أم لا، فإن تداول قصة مؤتمر كامبل بانيرمان كان له أثر نفسي وثقافي عميق على العرب:
• عزز الشعور بالمظلومية الجماعية.
• رسّخ الاعتقاد بوجود مشروع دائم لتقسيم وإضعاف العرب.
• دفع باتجاه الفكر القومي العربي والإسلامي كرد فعل على “المؤامرة”.
• جعل قوى الاستعمار، وخاصة بريطانيا، في موقع العدو التاريخي.
موقف المؤرخين والباحثين
• بعض المؤرخين العرب، مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري، أشار إلى المؤتمر باعتباره جزءًا من مشروع استعماري شامل وإن لم يثبت وجوده كمؤتمر موثق.
• بينما يشكك آخرون، مثل المؤرخ البريطاني ألبرت حوراني، في حقيقة انعقاده، ويعتبرون ما يُقال عنه تجميعًا لاحقًا لتطورات سياسية ضمن إطار مؤامراتي.
خاتمة
إن قصة “مؤتمر 1907” تمثل تداخلاً بين الواقع السياسي والتخيل الجمعي في الوعي العربي، فهي قد لا تكون مثبتة تاريخيًا بوثائق رسمية، لكنها تتقاطع بوضوح مع ما حدث لاحقًا في المنطقة. وهذا يدفعنا إلى تساؤل أعمق: هل نحتاج إلى وثائق سرية لندرك أن هناك مشروعًا استعماريًا هدف إلى تفتيت العرب والسيطرة على ثرواتهم؟ أم أن التاريخ نفسه، بما حمله من احتلالات وصفقات مشبوهة، هو الدليل الأكثر وضوحًا؟
في المحصلة، تبقى العبرة لا في صحة الرواية فقط، بل في ضرورة بناء مشروع عربي نهضوي حقيقي يقرأ الماضي بوعي، ويواجه المستقبل بإرادة حرة، بعيدًا عن خطاب الضحية وحده.