بعد حل مجالس البلديات والمحافظات.. ضبابية تلف “اللامركزية” والحكم المحلي

تطغى ضبابية المشهد منذ أن أعلنت الحكومة عن حلها لمجالس البلديات والمحافظات الأحد الماضي على “شكل وهيكلة” اللامركزية والحكم المحلي، التي تضمن معها أن يشهد الأردن واقعا مختلفا الحال، ويتسم بالنجاح في تطبيق هذا المفهوم.
ورغم المراحل الطويلة التي خاضها الأردن بشأن محاولة التوصل إلى تطبيق مفهوم اللامركزية والحكم المحلي، لكن التعديلات المتكررة لقانون البلديات، والخوض في حوارات سابقة عدة بشأنه، لم تتمخض عنها أي نتائج إيجابية، ملموسة على أرض الواقع.
فما بين عامي 2005 و2011، كان ثمة مبادرات للامركزية، إذ حاولت كل من وزارتي تطوير القطاع العام والتخطيط على حدة، قيادة عملية الصياغة لرؤية وإستراتيجية وطنية لها، لكن لم يتم التوصل إلى إجماع عليها بسبب المقاومة التي تعرض لها هذا التوجه من المصالح السياسية والبيروقراطية الراسخة.
ومنذ تطبيق اللامركزية بعد الانتخابات التي أجريت في منتصف شهر آب (أغسطس) عام 2017، وبعد مضي أكثر من عام، ظهرت العديد من المشكلات التي تتعلق بتضارب الصلاحيات بين مجالس المحافظات والبلديات، وتدني حجم الإنجاز، الذي رافقته دعوات من خبراء في الشأن البلدي بضرورة تطوير الإطار التشريعي الخاص بالحكم المحلي.
لكن الحاجة إلى إجراء أي تعديلات كان لا بد أن تترافق معها خطوات من أهمها تغيير مسمى وزارة البلديات إلى الإدارة المحلية، وذلك بعد صدور إرادة ملكية بالموافقة على قرار رئاسة الوزراء بهذا الصدد في أيار (مايو) 2015.
وكان تطبيق اللامركزية على مستوى المحافظة، الذي توج بإصدار قانون خاص بها عام 2015، تطلب مدة زمنية طويلة نسبيا، بدأت العام 2005، حين تحدث الملك عن “رؤيته للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإدارية” في البلاد.
بناء النموذج
وفي ظل قرار الحكومة بحل المجالس البلدية والمحافظات، والبدء فعليًا بالعمل على قانون جديد للإدارة المحلية، فإن هذه اللحظة تمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء النموذج الإداري المحلي في الأردن على أسس أكثر نضجًا وواقعية، وفق مدير عام مركز الحياة “راصد” د. عامر بني عامر.
ولكن هذه الفرصة، وفق بني عامر، لن تكتمل دون حوار وطني واسع وتشاركي في صناعة القانون، يضمن إشراك الفاعلين المحليين والمجتمعات المحلية، ويعكس التجربة المتراكمة والدروس التي خرجنا بها من التطبيق السابق.
والمطلوب، في رأيه، ليس فقط إعادة هيكلة قانونية، بل مراجعة شاملة للنهج، تبدأ من الاعتراف بأن مفهوم اللامركزية لا يعني فقط انتخاب مجالس محلية، بل هو أعمق من ذلك بكثير.
وهو نهج إداري، بحسبه، يضمن توزيع الصلاحيات والموارد بشكل عادل، ويكفل الشفافية والمحاسبة، ويعزز ثقة المواطنين بمؤسساتهم.
ولأن اللامركزية ليست شعارًا، فإن نقل الصلاحيات يجب أن يسبقه بناء قدرات حقيقية داخل البلديات والمجالس المنتخبة، حتى تكون قادرة على أداء مهامها بكفاءة واستقلالية، وفق تأكيداته.
من هنا، شدد بني عامر، على أن تمكين المجالس المحلية تشريعيًا، وماليًا، وبشريًا يجب أن يكون أولوية قبل أي حديث عن توسيع صلاحياتها.
وأكد أنه لا يمكن أن نُحمّل المجالس مسؤوليات دون أن نمنحها الأدوات والمؤهلات اللازمة لذلك.
ولفت إلى أن التجربة السابقة بيّنت أن غياب التمكين والدعم المؤسسي، أدّيا إلى ضعف الأثر التنموي، وتراجع ثقة المواطنين بهذه المجالس.
وتابع قائلاً: “لا بد من وقفة تقييم صريحة لتجربة مجالس المحافظات، إذ لا يجوز أن نقرر مصيرها دون أن نُجري مراجعة علمية، تُحدد هل فعلاً ساهمت هذه المجالس في تحسين توزيع الموارد، وتوجيه الأولويات، وتحقيق العدالة التنموية؟ أم أنها تحوّلت إلى هياكل غير فاعلة؟ يجب أن تُبنى القرارات على التقييم، وليس على الانطباع.”
وأضاف إن الشفافية والمساءلة يجب أن تكونا العمود الفقري في أي نموذج جديد للإدارة المحلية. ومن أبرز نتائج دراسة مركز “راصد” الأخيرة التي نفذها في حزيران (تموز) الماضي أشارت إلى أن 87 % من المواطنين يرون أن “الواسطة والمحسوبية” تُضعف من عمل البلديات.
وليس ذلك فقط، كما ذكر، بل إنها تؤثر سلبًا على ثقة المواطنين بالمجالس، وهذه النسبة وحدها كافية لتوضيح مدى الحاجة إلى آليات حوكمة واضحة، تضمن الإفصاح، والنزاهة، والمساءلة داخل الإدارة المحلية.
ومن وجهة نطره، فإن هنالك حاجة إلى قانون يُعزز الثقة، ويعيد الاعتبار لدور المجالس المحلية كأداة للتنمية لا مجرد إجراء شكلي، مع ضمان إعادة توزيع الصلاحيات بطريقة تعزز الكفاءة، وتحترم إرادة المواطنين.
وحدد بني عامر شروط تحقيق ذلك بـضرورة إشراك الناس في صناعة هذا القانون، لأنه لا يمكن بناء ديمقراطية محلية حقيقية إلا بإرادة تشاركية شفافة، تستند إلى مبدأ أن الإدارة المحلية ليست فقط جهة تنفيذ، بل هي أحد أركان العقد الاجتماعي في أي دولة حديثة.
الانتقال للحكم المحلي
وفي رأي وزير البلديات الأسبق م. حازم قشوع فإن الأوان قد آن للانتقال إلى الحكم المحلي بعد الانتهاء من العمل على فكرة الإدارة المحلية، والذي يتطلب إعداد مشروع كامل ومتكامل لتحقيقه.
ومن أجل تلك الغاية، أكد أن ثمة حاجة إلى تشكيل لجنة ملكية تُعنى بالوصول إلى حالة الحكم المحلي الذي نتطلع اليه في الأردن.
وهذه اللجنة، وفقاً له، ستتولى إعادة تشكل المنظومات الإدارية لتصبح منظمات تنموية، والتي قد ترفع معها عدد محافظات المملكة ليصل الى نحو 24 بدلاً من 12.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن فكرة الحكم المحلي تقوم على تطبيق المخططات الشمولية، ونقل الموازنات العامة للدولة إلى المحافظات، كما أكد.
وأشار إلى أن قضية الحكم المحلي واللامركزية تتمحوران في تحديد بوصلة العمل وفي أي تجاه سنمضي، والذي يقتضي وضع الحكومة لبرنامج عمل لهذه الغاية، أي السير ضمن ما يسمى بسياسة تراكم الإنجازات.
وأضاف، إن القانون الجديد سيكون ذا حدين؛ أحدهما سياسي، والآخر للمحتوى الوظيفي، إذ إن أي تعديلات يجب أن تكون بناء على نتائج أفرزتها لجنة عمل لتقييم وضع البلديات الحالي، وبجوانبه كافة مع تحديد التحديات.
وتساءل: “إذا لم يكن هنالك قانون وبرنامج عمل جديدان، ولم تعمل الحكومة على تنفيذ ما ورد في الورقة النقاشية الملكية الرابعة الخاصة بالوصول إلى منظومة الحكم المحلي، فلماذ حلت المجالس البلدية والمحافظات؟”
وكان من المفترض، بحسبه، أن تحدد الحكومة موعداً لانتخابات الإدارة المحلية، في ظل أن الهيئة المستقلة للانتخاب لا تحتاج سوى إلى أربعة أشهر للمرحلة التحضيرية لهذه الانتخابات.
ولفت إلى أن الحكومة لم تعط “مبرراً” واضحاً بشأن حل المجالس قبيل عام من انتهاء ولايتها القانونية، إلا إذا كان هنالك قرار سياسي بذلك.
وهذا الأمر قد يعيق معرفة خريطة الطريق التي ستتبعها الحكومة في تعديلات القانون نحو حكم محلي من وجهة النظر الحالية القائمة، أم في تجاه جديد مختلف في هذا الملف، كما أفاد.
غياب الموضوعية
ولا يختلف رأي الأمين العام الأسبق لوزارة البلديات م. مروان الفاعوري عن سابقيه في أن قرار حل المجالس كان “سريعاً”، ولا “يتسم بالموضوعية”، ولا “ينسجم مع مشروع الإصلاح السياسي” الذي طرحه جلالة الملك عبدالله الثاني سابقاً.
ولفت إلى أن حل البلديات يعد جزءاً لعملية “إجهاض” أخرى لقضية الديمقراطية في الأردن، والذي يتزامن مع “تفكيك” النقابات والعمل الحزبي كذلك، والذي يعاكس الهدف من تشكيل لجنة الحوار الوطني عام 2011.
واعتبر أن البلديات تعد الوسيلة لإفراز القيادات الاجتماعية والسياسية، وأي إجراءات تتعلق بشأن الانتخابات هدفها عدم إنجاح هذه الفئات.
ولذلك شدد على أن اللجان من حيث ممارستها لعملها، وتأثيرها، لم تتسم بالنجاح في وقت سابق، لكونها لا تتعرض للمساءلة لأنها أفرزت من قبل الحكومة، مقارنة بتلك التي تخضع لها المجالس البلدية المنتخبة.
وبناء على تلك المعطيات، وحتى هذه اللحظة، فإن اللامركزية لم تأخذ مداها الصحيح في الأردن، إذ إن هناك حاجة إلى هيكلة عامة لتقسيم البلاد إلى أقاليم، تدير مشاريع التنمية وغيرها من المهام، والتي تتبع لها أجهزة فنية متعددة، تبعا له.
وشدد على أن الأردن لا يسير بالاتجاه الصحيح لتحقيق مفهوم الحكم المحلي واللامركزية، وأن القانون الجديد لن يعزز تلك المسألة.