فيلم “القاضي” – دراما القانون والعائلة والمصالحة // سعيد ذياب سليم

مقدمة
«كلا… لكنه ميت بالنسبة لي». بهذه الجملة القاطعة يرد هانك على ابنته حين تسأله عن جدها، لتفتح الباب أمام حكاية قطيعة عائلية امتدت عقدين. لكن المفارقة أن هذا الابن الغاضب سيقف لاحقًا في قاعة المحكمة، مدافعًا باستماتة عن والده القاضي: «والدي كثير من الأشياء غير السارّة، لكن أن يكون قاتلًا ليس واحدًا منها». The Judge ( 2014) ليس مجرد فيلم محاكم من إخراج ديفيد دوبكين وبطولة روبرت داوني جونيور وروبرت دوفال، بل هو مواجهة بين القانون والعاطفة، وبين جراح الماضي وفرصة أخيرة لبناء جسر مكسور بين الأب والابن.
ملخص القصة
تدور القصة حول هانك بالمر، محامٍ بارع في شيكاغو، ناجح في عمله بفضل ذكائه الحاد، سخريته ولسانه اللاذع، وقدرته على التلاعب بالقانون، لكنه يعيش حياة شخصية مضطربة؛ زواج بارد على وشك الانهيار دفع زوجته للخيانة، وعلاقة فاترة مع ابنته الصغيرة. النجاح المهني لم يعوّضه عن علاقاته الاجتماعية المتصدعة.
قبل عشرين عامًا، سبّب حادث مراهقته سلسلة من المصائب التي تركت أثرًا دائمًا: أثناء قيادة متهورة، تسبب في وفاة صديقه وإصابة شقيقه غلين بشكل أبعده عن احتراف البيسبول. لتجنب العقاب، تدخّل والده القاضي جوزيف بالمر، مدفوعًا بغريزة الأبوة، ليخفي أدلة تجرمه ويحكم عليه بحكم مخفف، ما زرع شعورًا بالذنب والمرارة بين الأب والابن، وأسس لجفاء طويل دام عشرين عامًا.
تعود الأمور إلى الحاضر مع وفاة الأم، ليجد هانك نفسه مضطرًا للدفاع عن والده المتهم بالقتل، وسط كشف أسرار العائلة ومرض القاضي بالسرطان. في هذه الأثناء، يكتشف هانك أن أخاه غلين تزوج حبيبته السابقة سام ولها ابنة تُدعى كارلا، ما يثير شكوكه حول كونها ابنته، حتى تصارحه سام بأنها نامت مع غلين بعد أن غادر هانك البلدة، أثناء إحدى استراحات المحاكمة، لكن هذا لا يطفئ نار الشك، هل أدرك أن التربية و الإخلاص أقوى من الأبوة بالدم؟ أم أن التصالح مع العائلة دفعه لكبح غضبه ومنعه من مواجهة أخيه؟
خلال المحاكمة، يُفاجئ القاضي الجميع عندما يُقرّ بأنه قد يكون قتل مارك بلاكويل عن عمد، رغم أنه لا يتذكر الحادثة. هذا التصريح يُثير صدمة في القاعة، ويُظهر الصراع الداخلي للقاضي بين واجبه كأب وكرجل قانون.
تنتهي المحاكمة بإدانة القاضي بالقتل غير العمد، والحكم عليه بالسجن القصير، ثم وفاته بعد الإفراج أثناء رحلة صيد بالقارب في البحيرة تاركًا لهانك مصالحة متأخرة وفهمًا أعمق لجذور خلافهما.
التحليل الدرامي والرمزي
لم يكن الفيلم فريدًا من نوعه؛ فهو غارق في الكليشيهات السينمائية المعهودة: عودة الابن الضال، الصراع الأبوي المتكرر، والصدمات العائلية الجاهزة، حتى ليبدو وكأنه نُسج ليضم أحداثًا أطالت مدته دون مبرر درامي حقيقي. ورغم أن أداء روبرت داوني جونيور وروبرت دوفال يبهرك، إلا أن البناء السردي ينهار تحت وطأة الحوارات المبتذلة والحبكة المتوقعة التي تحاكي دراما هوليوود التقليدية دون أي ابتكار.
تكمن المشكلة الأعمق في تشتت رؤية الفيلم؛ إذ يحاول الجمع بين قصة مصالحة عائلية وإثارة قانونية، لكنه يفشل في تحقيق التوازن. فالمشاهد القضائية تفتقد للمصداقية، بينما تغرق المشاهد العاطفية في ميلودراما مفرطة. وحتى الشخصيات الثانوية — رغم تمثيلها المتقن — تُترك مسطحةً كديكور، مما يضعف أثر الصراع المركزي. والنتيجة عمل فاخر من حيث التصوير والموسيقى، لكنه يبدو كنسيجٍ مرقع من المشاهد المطوّلة والمواضيع غير المطوّرة، ليقدم في النهاية ما وصفه الناقد بيتر ترافرز بـ «دراما معبأة بالنجوم… ومتكلفة».
ورغم ذلك، هناك محطات رمزية لافتة تستحق التوقف عندها:
أ. رمزية الصيد والماء
في محاولة لردم الفجوة العاطفية بينهما، يعاود هانك ووالده الصيد في البحيرة، إحياءً لذكرى قديمة كانت تراود هانك كالحلم. الماء هنا يحمل رمزية التطهير وغسل الآثام، كما في طقس العماد، ويمثل بداية التصالح بين الابن ووالده. أما الصيد، برمزيته للصبر والمراقبة و التواصل الصامت، فيجسد ذروة هذا التصالح.
ب. ثنائية القانون والعاطفة
يقدّم الفيلم شخصية الأب القاضي كرجل قانون يعيش صراعًا داخليًا بين إنفاذ العدالة كمفهوم قانوني والعدل كقيمة إنسانية. فهو في النهاية يعود إلى دوره كأب تدفعه الغريزة لحماية ولده والدفاع عنه حتى وإن اضطر لمخالفة القانون. ولذا، فإن مشاهد المحكمة ليست عن الإدانة أو البراءة فحسب، بل عن الحاجة للاعتراف المتبادل والحب الذي جاء متأخرًا.
ج. مشهد الكرسي الدوّار في المحكمة
في أحد المشاهد الأخيرة، يدير هانك كرسي والده القاضي بعد وفاته، دورانًا يشبه دوران دولاب الحظ، رمزًا لدورة الحياة وتبدّل المواقع بين الأب والابن، وبين القوة والضعف. وفي النهاية، يقف المقعد في مواجهته؛ مواجهة توحي بأن الحوار مع ذكرى والده لم ينته بعد، وأنه سيعود دائمًا ليستقي من بئر حياته الأولى.
البعد الإنساني والأخلاقي
يقدّم الفيلم شخصية هانك، الطفل المشاكس الذي كبر ليجسّد الحلم الأمريكي كما لو كان يصنع مجده بعصا سحرية، قبل أن يغيب عن بلدته عشرين عامًا. في الفترة نفسها، قضى مارك بلاكويل — من جيله وربما من مدرسته — عشرين سنة خلف القضبان. كلاهما نال حكمًا مخففًا، لكن مساريهما كانا على طرفي النقيض: هانك شق طريقه إلى شيكاغو ليبني مستقبلًا باهرًا، بينما لم يتعظ مارك وارتكب جريمة أعادته للسجن. هنا يلمّح الفيلم إلى أن القاضي — كأب — لعب دورًا في إيقاظ ابنه من غفلته.
يرسم العمل صورة لعائلة ينهشها الشرخ العاطفي، والخيانة، والغيرة بين الإخوة، لكنه يترك نافذة مفتوحة للمسامحة.
العلاقة بين الأب والابن تجسّد صعوبة المصالحة مع الماضي، وهذه الحساسية تجاه الماضي والميراث الشخصي تتجلّى في تمسّك القاضي بإرثه؛ في أحد حواراته، حين استشهد بسيرة الرئيس رونالد ريغان الذي ارتبط اسمه بانتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، لكنه حذّر من اختزال إنجازاته في ذكريات تافهة مثل “حبات الجيلي” أو “القيلولات”. كان ذلك انعكاسًا لقلقه العميق من أن يُختصر إرثه القضائي إلى تفاصيل هامشية أو أحكام مثيرة للجدل، بدلًا من أن يُذكر بوصفه حامي العدالة في بلدته.
فيما يكشف غياب المثالية عن الحب والزواج عن رؤية أكثر واقعية للعلاقات الأسرية. في هذا الإطار، تصوّر السينما الأمريكية العائلة ككيان هش، لكنه قابل للترميم، وأن لكل فرد في العائلة دوره؛ فهذا خوهم ديل، الذي يعاني من صعوبات التعلم، يجمعهم ليعرض عليهم إنتاجه السينمائي، الذي يضم أجزاءً من تاريخ العائلة، فيكون له دور إيجابي في إثارة الحب وتهدئة المشاعر. أما العلاقة الحميمة، فيعرضها الفيلم كلعبة قفز فوق الحواجز، تخلو من الإخلاص واحترام الشريك، حتى حين تُبرَّر باسم الحب.
التقييم الفني
قدّم روبرت داوني جونيور أداءً يجمع بين الذكاء والتهكم، يقابله إحساس دفين بالهشاشة الداخلية. أما روبرت دوفال، فقد جسّد دور الأب الصارم الذي تكشف ملامحه عن لحظات إنسانية مؤثرة، وهو الأداء الذي أهّله للترشّح لجائزة الأوسكار. وجاء الإخراج ليوازن ببراعة بين إيقاع جلسات المحاكمة المشحونة والتقاط اللحظات الصامتة التي تكشف الصراعات الداخلية للشخصيات.
خاتمة
في جوهره، لا يتحدث الفيلم عن القانون بوصفه نصوصًا تحكم القضايا فحسب، بل عن ذاك القانون الخفي الذي يحكم القلوب، ويقيس العدالة بميزان المشاعر بقدر ما يقيسها بأحكام المحكمة. رسالته الأساسية أن الجروح القديمة، مهما بدت عميقة، قد تذوب ولو للحظات قصيرة أمام ومضات من الصدق، فتمنحنا سلامًا داخليًا نادرًا.
ويختتم الفيلم بلحظة مواجهة صادقة بين الابن ووالده، حوار عارٍ من الأقنعة، يضع كل ما تبقى من العمر في سؤال واحد وإجابة حتمية:
هانك بالمر: «هل تعتقد أن هناك شيئًا آخر بعد أن نموت؟»
القاضي جوزيف بالمر: «تسألني إذا كنت أؤمن بالله؟»
هانك بالمر: «هل تؤمن؟»
القاضي جوزيف بالمر: «أنا في الثانية والسبعين، وفي المرحلة الرابعة من السرطان… ما هو الخيار الذي لدي؟»
سعيد ذياب سليم