صفحة من دفتر ذكريات مُكلَّف // سعيد ذياب سليم

بداية الطريق

مَرَّ على ذلك اليوم أربعون سنة. كان صباحًا رمضانيًا من أيّام حزيران، صافحته شمس مشرقة وأنا أحمل حقيبةً صغيرة، وضعتُ فيها مُستلزماتي الشخصية وأشيائي البسيطة، مُتَّجهًا إلى مركز التجمّع لأداء خدمة العَلَم.

لم تكن لديَّ خبرة تُذكَر بالحياة العسكرية، سوى ما كنتُ أسمعه من الأصدقاء الذين سبقوني إليها، وما تلقَّيناه في محاضرات مادة العلوم العسكرية أثناء دراستي الجامعية. كان يُحاضرنا فيها ضبّاط من مختلف الوحدات، يروون وقائع من تاريخ المنطقة تبدأ من معركة عين جالوت وتمتد وصولًا إلى الحروب العربية الإسرائيلية.

مشاهد أولية وانطباعات

في إحدى الزيارات الميدانية إلى واخدة من الكلّيات العسكرية، شهدنا عروضًا أضافت شيئًا من الدهشة إلى معرفتنا النظرية. كانت تلك اللحظات توحي بالكثير، لكنّها لم تكشف بعد عن حقيقة ما ينتظرنا.

ولا أنسى الموقف الطريف في إحدى محاضرات قسم الرياضيات. كان الدكتور الأمريكي يتأمّل وجوهنا ويسأل عن مشاريعنا المستقبلية: هذا سيُكمل الماجستير، وذاك سيدخل سوق العمل. وحين جاء دوري، سألني بابتسامة:
– وأَنت؟
فأجبته بفخر: – سأذهب لأداء الخدمة العسكرية.
فضحك وقال: – ستحتاج إذن إلى مُكيّف هواء في دبابتك!

حتى ذلك الحين، كانت اهتماماتي لا تتعدّى دراستي، ارتياد المكتبات العامة، حضور الأفلام في السينما والعروض المسرحية. كنتُ إنسانًا مدنيًا بالكامل، لم أُصافِح بندقية يومًا، ولم أتخيّل أنّني سأقف ذات صباح في طابور عسكري.

من المدني إلى الجندي

في مركز التجمّع احتشد جمع كبير من الشباب المُتحمّسين لخدمة الوطن. وبعد استكمال الإجراءات، حملتنا سيارات نقل الجنود إلى مركز الاستقبال. كانت الأجواء مزيجًا من الحماسة والرهبة، فيما الرفاق ينزعون عنهم شيئًا فشيئًا العفوية والكسل، ويستبدلونها بالانضباط والصرامة. ومع مرور الأيام صرنا كالجسد الواحد، أو كالسبيكة التي انصهرت فيها معادن كثيرة لتُصبح أكثر صلابة مما كانت.

كانت الثكنة مرآةً مُصغّرة للمجتمع الأردني. أفرادها جاؤوا من البادية والريف والمدينة والمخيّم، من الأغوار والجبال والصحراء. كلّهم أبناء الوطن الواحد، تراهم ينطلقون كسِربٍ من الجوارح في تدريباتهم، وتصدح حناجرهم بالهتاف: الله… الوطن… الملك.

ذلك اليوم من رمضان اجتمعنا في الكتيبة بزيّ الميدان الأخضر “الفوتيك”، وقد اعتمر كلٌّ منّا قبعته العسكرية “البيري”، ويشرق على هاماتنا شعار الجيش العربي، العنوان الخالد للتضحية والفداء في القدس واللطرون والكرامة، وما زال. ثم كانت انطلاقة الطقوس والمصطلحات، وأساسيات السلوك والانضباط العسكري.
وبينما كنتُ أستعد لمرحلة جديدة من حياتي، أخذت أُردّد بيني وبين نفسي: “You’re in the army now.” تلك الأغنية التي ملأت فضاء الثمانينات عادت فجأة لتفتح أمامي نافذة على ذكرى بعيدة، تختزل التحوّل من شابّ مدني يعيش بين الكتب والمسارح، إلى جندي يتعلّم معنى الانضباط والانتماء.

يوم رمضاني لا يُنسى

ومع غروب الشمس اقتربنا من لحظة مميزة. ففي مساء ذلك اليوم، وقبيل الإفطار، قصدنا صالة الطعام “الميس”. وعند أذان المغرب، اصطففنا في ساحة قريبة للصلاة خلف الإمام، الذي ارتفع صوته الجميل يتلو: “إذا زُلزلت الأرض زلزالها…”.

بعد الصلاة، سرنا في الطابور باتجاه مُوزّع الطعام. حملتُ صينيتي الخاصة، المُهيّأة بطريقة لتحمل عدّة أصناف في حجراتها الغائرة. وعندما وصلتُ إلى الطهاة، سكب كلٌّ منهم مغرفة في صينيتي، فامتلأت واختلطت الأصناف في كتلة واحدة، حتى إنّني لم أعرف ما أكلتُه ذلك اليوم.

وحين جاء وقت الشاي، ملأنا أكوابنا المعدنية. لسعت شفاهنا حرارتها، فتذكّرتُ ساعتها أستاذي في المدرسة الابتدائية وهو يُعلّمنا أن الألمنيوم موصل جيّد للحرارة. فابتسمتُ لذكراه وقلت في نفسي: “أصبحتُ جنديًا يا أستاذ.”

تلك الليلة لم نستطع النوم من الإثارة والترقّب، لكنّنا خطفنا سويعات قليلة قبل أن ننهض مرّة أخرى للسحور. شدّتنا أنوار المدينة المُتلألئة في البعيد، ومسّنا سحر الحنين لذلك العالم الذي تركنا فيه حياةً كانت لنا… فهل تذكرني الصبية؟
الدخول في الروتين العسكري

بعد رمضان، لم يطل الأمر حتى انغمسنا في الروتين اليومي، وغرقنا في المهام المُلقاة على عاتقنا. فمنذ انبلاج الفجر نرتّب أسرّتنا بهيئات متماثلة، نهتمّ بالقيافة الشخصية، ثم نقف في الطابور الصباحي ليتفقّدنا ضبّاط الصف والمدرّبون. وبعدها الرياضة الصباحية، يلي ذلك تناول وجبة إفطار متوازنة، ثم نسير في طابور منتظم إلى الميدان، لنأخذ أماكننا وممارسة التدريبات حتى وقت الغداء.

في الميدان، أنشطة مختلفة: بدنية، ودروس وتوجيهات وحلقات نفترش فيها الأرض، نصغي للمدرب ونسجل ما نسمعه من معلومات.
وخلال الاستراحات، بدأت الأحاديث تتدفّق بين الأفراد: كلّ يُقدّم نفسه ويقصّ قصّته. مسافات ثقافية متفاوتة، ومستويات علمية متباينة، ومهن شتّى. لكن يجمعنا الحسّ الوطني والشعور بالمسؤولية والهدف المشترك.

كانت أجسامنا رشيقة، نتحرّك بخفّة الريح، صقلتها التدريبات الميدانية وتوجيهات الضبط والربط العسكري، حتى لكأنّنا خُلقنا من جديد، أو أنّنا وُلدنا في الميدان.

التدريب والانضباط

شملت التدريبات الوقوف والانتباه والاستراحة، السير النظامي “Marching”، الانعطاف، السلوك الميداني، والتحية العسكرية وتحية العَلَم. وكأنّنا تعلّمنا لغة جديدة لعالم تحكمه تقاليد صارمة، واحترام الذات والرموز الوطنية.

ما يُميّز العسكري عن المدني هو مجموعة القوانين وقواعد الضبط العسكري، واحترام تسلسل القيادة، و إطاعة الأوامر؛ تلك القواعد التي تُشعرك بالانتماء إلى الجسد الواحد وتُضفي على الحرية الشخصية بُعدًا جديدًا.

مهارات وسلاح

معارف ومهارات ميدانية عديدة مارسناها تكفل صقل الشخصية وزيادة القوة والتحمّل، لضمان السلامة والأمان. ومن وقت لآخر، كنّا نحصل على إجازات قد تمتد لأيام، نعود فيها إلى الأهل والأصدقاء. خلالها كنتَ ترانا منتصبي القامة، تملؤنا الثقة بالنفس، نتيجة ما تعلّمناه من مهارات قتالية ومناورات ميدانية. كانت مشاعرنا تختلف عن الشخوص المدنيين بما تعلّمناه من “أسود العرين” الذي أصبحنا جزءًا منه.

تعرّفنا على الأسلحة الفردية، البندقية وكيفية التعامل معها بأمان، فكّها وتركيبها، ومارسنا الرماية باستخدامها. وكانت هناك أسلحة أخرى، يتم التعامل معها كفريق، تُبنى من خلال التعامل معها جسور الثقة والعمل الجماعي وأخوّة السلاح.

الحياة اليومية في المعسكر

شاركنا في المهام اليومية، والعناية بمرافق المعسكر، نظافته وريّ شجره، والاستماع إلى محاضرات دينية وصحية تتعلق بالسلامة العامة. ومع مرور الوقت تشكّلت بين أفراد الفصيل روابط الصداقة والتفاهم والانسجام، روابط بقوة الروابط الأسرية، حتى إنّ عيوننا اغرورقت بالدمع حينما حان الوداع.

التخرّج والوداع

كالحُلم الجميل، انقضت أيّام التدريب بأشهرها الثلاثة. احتفلنا يوم التخريج على أرض الميدان الذي واجهنا فيه تحدّيات جمّة صقلت مواهبنا. وحقّ لنا أن نفتخر بأنّنا رجال هذا الوطن الأشم.

اجتمعنا في باحة الكلّية، وهناك جرى الوداع بين أفراد العائلة والفريق الواحد، وتوزّعنا إلى ميادين أخرى لا تقلّ إثارة عمّا واجهنا هنا. لكن لذلك قصّة أخرى…انطوت أيام التدريب كما يطوي المرء صفحة من دفتر العمر، لكن صداها ظلّ حاضرًا في القلب، يذكّرني أنّني في يوم من الأيام كنتُ جنديًا بين رفاق حملوا معي معنى الانتماء والفداء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة