لقب الشيخ .. بين الوراثة الأصيلة والتفريخ العشوائي !

مهدي مبارك عبدالله
=
أثار خبر نشر قبل عدة ايام في بعض المواقع الاخبارية المحلية عن تقديم 34 ألف أردني للحصول على لقب شيخ من مستشارية شؤون العشائر جدلاً واسعاً في الشارع الأردني نظرا لضخامته حيث طرح سؤالاً مهماً حول سر هذا التهافت الكبير على صفة اجتماعية ذات رمزية عميقة في المجتمع الأردني خصوصا وان الرقم ليس عادياً ولا يمكن المرور عليه مرور الكرام حيث يندفع هذا الكم الهائل من الناس وراء لقب اجتماعي وهل يكشف ذلك عن حجم الخلل الذي يعيشه المجتمع ام هو مؤشر على أن لقب الشيخ لم يعد في نظر البعض ذو مكانة وراثية شرعية تنتقل من الأب والجد أو صفة تمنح بتزكية العشيرة وتصديق مستشارية شؤون العشائر وهل تحول عند الكثيرين إلى لقب يسهل انتزاعه بالكروت الملونة والمظاهر الشكلية لدرجة ان بعض المحلات التجارية بداءة تتسابق في بتخفيض اسعار العبي والعقل والشماغات
بصورة عامة هنالك الكثير من الشيوخ المزيفون في ظل فوضى الألقاب واستحواذ المكانة وهم يملؤون الساحة دون أي سند قانوني او اعتراف من أهلهم أو عشائرهم ورغم ذلك يطبعون بطاقات شخصية يزينونها بالتاج الملكي وشعار المملكة ويضعون فيها اسمائهم وصفاتهم وصورهم ليوهِموا الناس بمكانتهم العشائرية والرسمية وهم يتسابقون فرادى وزرافات لحضور الدورات والندوات والمهرجانات والاحتفالات ويتصدرون الجاهات والافراح والجنازات ويتدخلون في قضايا الخطوبة والصلح والمشاجرات وبعضهم يطلبون بدلات مالية مقابل حضورهم وجهدهم بل قد يساومون الطرفين معاً ويستغلون المواقف لتحقيق مكاسب شخصية رخيصة على حساب الدماء والحقوق واللقب
هذه النسخة المغشوشة من التسميات الوجاهية المزيفة والهيبة الاستعراضية المسروقة هي كل ما يملكه بعض هؤلاء المستشيخين الذين لا يستطيعون دفع أجور تنقلاتهم في باص عموي او ثمن بطاقات شحن هواتفهم ومع ذلك يتقمصون دور الشيخ الكبير ويفرضون أنفسهم في المناسبات الرسمية والاجتماعية ويتسيدون على الناس وهم يعلمون قبل غيرهم أنهم مجرد مدعين وأن بطاقاتهم المزخرفة لا تمنحهم هيبة ولا احترام ولا شرعية لكنهم يستغلون جهل البعض وحاجة الناس البسطاء ليصنعوا لأنفسهم مكانة موهوما من فراغ دائم باقل التكاليف
مكانة الشيوخ الحقيقيين في الأردن ما تزال محفوظة رغم ما يعتريها من مظاهر التعدي غير المشروع من قبل بعض المتطفلين والتي من حقهم الطبيعي والقانوني المحافظة عليها سواء كانوا متعلمين أو أميين أكفاء أو محدودي القدرات فالمعيار في الشيخة ليس الكفاءة الفردية وإنما بالإرث والتزكية والعرف الاجتماعي المطبق وهذا أمر مفهوم ومقدر في إطار المجتمع العشائري بكل اطيافه
الخطر الحقيقي في دوامة المشهد ليس في الشيوخ الذين حصلوا على لقبهم بالوراثة أو التنسيب الرسمي وإنما في الدخلاء الذين يسرقون اللقب ويزيفون صورته وينشرون الفوضى بين الناس ويشوهون صورة العشيرة والدولة معاً فهؤلاء باتوا يهددون السلم المجتمعي ويفتحوا أبواب الفتنة ويجعلوا من اللقب الأصيل ألعوبة بيد الطامعين والمتسلقين واصحاب المصالح الشخصية
مقابل هذا الحال غير الطبيعي المطلوب تدخل الدولة الحاسم لإغلاق هذا الباب وتنظيم المشيخة وفق قواعد وأسس واضحة تحمي الشرعية وتحفظ مكانة الشيوخ الحقيقيين وتقطع الطريق على كل دخيل يسعى للتجارة والتكسب من اللقب على حساب الوطن والمجتمع وقد آن الأوان أن نقول بصوت عالٍ إن الشيخ الحقيقي هو من تحمله عشيرته وتقره الدولة أما البقية فهم مجرد مهرجين في سوق الوهم يبيعون الألقاب الرخيصة ويشوهون الوطن
الظاهرة التي نعيشها اليوم ليست وجاهة اجتماعية ولا حرصاً على العادات والتقاليد فحسب بل هي حالة جشع ونفخة كاذبة تسلب من اللقب هيبته ومن المجتمع توازنه وهي في ذات الوقت مرض خطير يهدد صورة العشيرة الأردنية ومكانتها ودورها التاريخي فحين يصبح اللقب الذي حمله رجال أوفياء عبر الأجيال لعبة في أيدي الدخلاء والمتطفلين فإننا ندخل مرحلة خطر انهيار الهيبة وتفكك المرجعيات وابتذال الرموز سيما وان المستشيخ لا يمثل إلا نفسه ونزواته أما الشيخ الحقيقي فهو امتداد حقيقي لجذور ضاربة في التاريخ ودماء حافظت على السلم الأهلي ووقفت في وجه الفتن وإن ترك الحبل على الغارب سيحول المجتمع إلى ساحة هرج ومرج يتزاحم فيها المزيفون ببطاقات وألقاب مسروقة وشعارات مضللة فيما تهمش مكانة الشيوخ الشرعيين وتلطخ سمعتهم بسلوكيات منحرفة لا علاقة لهم بها
امام كل هذا من حق الأردنيين جميعاً أن يدركوا أن احترام الشيوخ الحقيقيين لا يكتمل إلا بفضح واقصاء المستشيخين المزيفين وإغلاق أبواب الادعاء الكاذب لأن حماية اللقب تعني بالمحصلة حماية للهوية الوطنية وصون لمقام العشيرة ودفاع عن كرامة الدولة والمجتمع معاً سيما وان المشيخة وراثة شرعية لا كروت ملونة تحمل لقب شيخ مزيف
الغريب المشاهد ان بعض هؤلاء المستشيخين لم يكتفوا بالسطو على لقب شيخ بدون وجه حق بل اصبح كثير منهم يدعون امام الناس بان اصول عائلاتهم تعود الى سلالة السادة الاشراف وان لديهم شهادات بالنسب الشريف من المغرب وبعضهم ادعوا انهم يحملون درجة الدكتوراه والماجستير واكثرهم لم يكملوا الاعدادية واللافت ان هنالك محافظة قريبة جدا من العاصمة عمان فيها اكثر من 10000 الاف شخص يدعون الشيخة بمجرد لبسهم العباءة الصينية او السورية وبعضهم يعاتبك او يشوح بوجهه عنك ان ناديته باسمه المجرد ولم تسبقه بلقب شيخ كما تجد كثير منهم يستغلون المناسبات الوطنية والاعياد الدينية لالتقاط صور شخصية مع المحافظ ومدير الشرطة ورئيس البلدية وكبار المسؤولين ويحتفظون بها في هواتفهم الشخصية للاستعراض بها امام الناس عند الحاجة ناهيك عن تطفلهم المتواصل على حضور احتفالات السفارات العربية والاجنبية بمناسباتها وأعيادها الوطنية تحت مسمى شيخ
معلوم جيدا ان المشيخة وراثة أصيلة مكتسبة عن الآباء والأجداد أو مكانة تُمنح بتزكية العشيرة او الحكومة وتصادقها الدولة وهي رمز اجتماعي عميق يعكس مرجعية عشائرية ضاربة في التاريخ والشيخ الحقيقي هو من يتولى امر العشيرة ويمثلها في السلم والحرب وهؤلاء الشيوخ مهما اختلفنا معهم أو انتقدناهم يظلون عنواناً للشرعية العشائرية التي تحمي السلم الأهلي وتضمن استمرار المرجعية
يبدو بهذا الحال إننا اصبحنا أمام معركة صامتة بين الأصالة والزيف وبين الشرعية والادعاء وبين الرجولة الحقيقية والهيبة المصطنعة وهي معركة لا يجوز أن تترك للمصادفة أو للمزاج الفردي والمطلوب ثانية تدخل واضح وصارم من الدولة والمجتمع معاً ليقال بصوت عال ان التأنق بالقماش لا تصنع شيخاً والبطاقة المزيفة لا تمنح هيبة واللقب الذي لا يحمله أهلك وعشيرتك ولا تصادق عليه الدولة لن يصنع منك إلا مهرجاً في سوق الوهم والخصومات
للحقيقة والمصداقية لابد ان نؤكد بان الشيخ الحقيقي هو مرجعية ضرورية والمستشيخ عبء على المجتمع وما نراه اليوم من تفريخ عشوائي للشيوخ المزورين اصبح أشبه بوباء اجتماعي لأشخاص لا سند لهم ولا اعتراف بهم من عشائرهم ولا حتى جيرانهم وهذا التسابق المحموم على اللقب يفتح الباب واسعاً أمام فوضى اجتماعية خطيرة فحين يصبح الشيخ مجرد لقب يشترى بكروت مطبوعة فإننا نقف أمام انحدار للقيمٍ سيضرب أساسات المجتمع سيما وان كثير من هؤلاء المستشيخون لا يملكون علماً ولا تجربة ولا حتى احتراماً داخل بيوتهم وعشائرهم حيث فقدوا القوامة ومع ذلك يفرضون أنفسهم على المجتمع والدولة ويحشرون أنوفهم في قضايا أكبر منهم وينشرون الخصومة بدل الصلح ويعمقون الفتنة بدل الإصلاح
الضرر هنا لا يقع على مكانة الشيوخ الشرعيين فحسب بل على الدولة والمجتمع ككل فاستسهال اللقب وتضخيم أعداد المستشيخين يهدد بفقدان المرجعية الحقيقية للعشيرة ويجعل الساحة مفتوحة للادعاء والفوضى والابتزاز بينما الأصل أن يكون اللقب رمزاً اجتماعياً مقدساً لا يقترب منه إلا من استحقه بالوراثة أو التزكية العشائرية او الادارية
للأسف الشديد مع تفاهم الوضع لم يعد لقب الشيخ في الأردن حكرا على أبناء العشائر الكبار والصغار ولا على الرجال الذين ورثوا هذه المكانة أبا عن جد وإنما صار مشاعا لكل من أراد أن يضع على نفسه وشاح الهيبة حتى لو كان بلا تاريخ ولا رصيد اجتماعي فظاهرة تفريخ الشيوخ صارت مقلقة ومضحكة في الوقت ذاته حيث يكفي أن يطبع أحدهم كرت ورقي ويضع عليها صورته متدثرا بالدشداشة والحطة والعقال والعباءة ويزينه بالتاج الملكي أو شعار المملكة الأردنية الهاشمية ويوزعه على الناس حتى يظن من يراه أنه رجل دولة أو على الأقل صاحب صفة رسمية مع أن عشيرته نفسها لا تعترف به لا مختارا ولا وجيها ولا حتى كبيرا في حارته
امام كل هذا فان الشيوخ الحقيقيين أبناء العشائر الذين ورثوا هذه المكانة أو نالوها وفق القانون والمرجعية الرسمية ييقوا ثروة اجتماعية للأردن وحماة لاستقراره ولا يجوز أن تختلط صورتهم بممارسات المستشيخين والدخلاء لذلك فإن وقف مزارع تفريخ الشيوخ المزيفين هو واجب وطني واجتماعي يحمي العشائر من التلوث ويحفظ للقب الشيخ مكانته وهيبته وأصالته خصوصا وان التمادي من قبل البعض وصل إلى حدود العبث دون ان يعلم كل من ينتحل لقب الشيخ أنه يسرق من رصيد الوطن قبل أن يسرق من حساب العشيرة وأنه بذلك يضع نفسه في خانة العار والفضيحة لا في قائمة الوجاهة والمكانة
اخيرا : السؤال الملح المشروع هنا لماذا تسمح اجهزة الدولة المعنية باستمرار هذه المهزلة ولماذا لا يتم ضبط سوق الشيوخ العشوائي الذي يزداد كل يوم فمن غير المعقول أن يصبح كل متسلق شيخ بين ليلة وضحاها وأن تتحول صفة الشيخ إلى تجارة مربحة ومكسب مريح يقتات منها الدخلاء والمحتالون بينما يسيئون بوجودهم وعملهم لصورة الشيوخ الحقيقيين أبناء البيوت الكريمة الذين ورثوا هذه المكانة عبر أجيال وحافظوا على دورها ومسؤولياتها بشرف وصدق وامانة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com