هل آن أوان المصالحة بين حزب الله والسعودية ؟

مهدي مبارك عبدالله
في مشهد سياسي تموج فيه التحولات الكبرى وتتسارع انهيارات التوازنات القديمة خرج حزب الله اللبناني من صمته المعتاد في ملف العلاقات مع السعودية وأطلق نداء غير مسبوق يدعو فيه إلى فتح صفحة جديدة مع الرياض وقد صدر النداء المفاجئ على لسان الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي دعا في خطاب متلفز إلى فتح صفحة جديدة مع المملكة تقوم على أسس حوارية تتجاوز الماضي وتضع إسرائيل كعدو مشترك الدعوة لم تكن مجرد خطاب علاقات عامة بل تحمل في مضامينها دلالات دقيقة تشير إلى تغير في زاوية الرؤية والطرح وربما أيضًا في مستوى التوازنات داخل المعادلة اللبنانية والإقليمية التي أصبح حزب الله فيها أكثر عزلة من أي وقت مضى وأقل قدرة على المناورة من ذي قبل
يتزامن هذا التحول في خطاب الحزب مع جملة ضغوط داخلية متصاعدة أبرزها القرار الحكومي بتكليف الجيش اللبناني بخطة مرحلية واضحة لتجريد الحزب من سلاحه بدءًا من الجنوب اللبناني امتدادًا إلى مناطق البقاع وبيروت وهو تطور غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين الدولة اللبنانية والحزب وهذا التحدي الداخلي يقترن بحالة إنهاك عسكري ومعنوي خلفتها الحرب الأخيرة مع إسرائيل التي لم تكتف بسقوط آلاف الضحايا بل نالت من البنية القيادية والعسكرية للحزب بدءًا من اغتيال أمينه العام حسن نصر الله وعدد من القادة الميدانيين البارزين وليس انتهاءً بخسارة بعض المواقع الاستراتيجية في الجنوب اللبناني التي لا تزال محتلة حتى اليوم والحزب الذي ولد في سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي يجد نفسه اليوم محاصرًا بين نزع سلاح داخلي متنامٍ وواقع إقليمي متحول لم تعد فيه إيران قادرة على توفير الغطاء والدعم كما في السابق بعد انكفائها النسبي عن الساحة السورية وتعرضها لضغوط اقتصادية ودبلوماسية متواصلة من قبل واشنطن وأوروبا وفي ظل هذا المشهد القاتم لم يجد الحزب حرجًا في طرح مبادرة تسعى لتجميد الخلافات لا حلها وتدعو إلى تحالف مرحلي مع من كان يعدّ خصمًا عقائديًا وسياسيًا لعقود طويلة
المرجح أن الرياض تدرك ما وراء هذا النداء وتعلم أن حزب الله اليوم لا يملك ترف التعالي السياسي وليس لديه مظلة إقليمية صلبة تحميه كما في السابق فالتحالف الإيراني الذي شكل ظهرًا وسندا للحزب بدأ يتآكل بفعل الضغوط الدولية المختلفة فضلًا عن المأزق النووي الإيراني مع الغرب وتراجع قدرة طهران على ضخ الدعم المالي والعسكري لا ذرعها وان دعوة الحزب لم تقابل حتى الساعة بأي رد رسمي من السعودية لكن الصمت هنا ليس غيابًا بل يعكس قراءة هادئة للمشهد من قبل المملكة التي أعادت رسم موقعها الإقليمي والدولي خلال السنوات الأخيرة ولم تعد تتعامل بعاطفة أو اندفاع بل بمنطق البراغماتية السياسية التي تقيس فيها الخطوات بالكلفة والجدوى
السؤال المطروح هل تستجيب السعودية لدعوة حزب لطالما اعتبرته ذراعًا إيرانيًا على خاصرتها الأمنية المعطيات تشير إلى أن الرياض لا تنظر بعين القبول إلى التعامل مع الكيانات ما دون الدولة وترى في أي حوار مباشر مع حزب الله تجاوزًا لمنطق المؤسسات الذي تسعى لتعزيزه في لبنان منذ سنوات من هنا فإن السعودية على الأرجح ستواصل موقفها القائم على دعم الدولة اللبنانية ممثلة في رئاستها الجديدة جوزيف عون وحكومتها برئاسة نواف سلام وستترك للحكومة اتخاذ الخطوات الكفيلة بتطويق نفوذ الحزب أو على الأقل ضبط إيقاعه في سياق سياسي أوسع. وبذلك وإن دعوة الحزب للحوار لن تلقى ترحيبًا سريعًا أو علنيًا من قبل الرياض بل ستظل في إطار التجاهل المتعمد خاصة وأن سجل العلاقة بين الطرفين مثقل باتهامات مباشرة تصل إلى حدّ التصنيف الإرهابي من قبل مجلس التعاون الخليجي وتورط الحزب وفق رواية سعودية رسمية في دعم انصار الله الحوثيين وتدريبهم والتخطيط لعمليات داخل الأراضي السعودية
رغم الطابع البراغماتي الذي بات يميز السياسة السعودية إلا أن تجاوز مرحلة العداء مع حزب الله يتطلب ما هو أبعد من خطاب تلفزيوني فالمملكة تملك ذاكرة طويلة في السياسة ولا تنسى الاتهامات المباشرة التي وجهها حسن نصر الله لها حينما وصف ولي عهدها بالإرهابي واتهمها برعاية داعش والتكفيريين وهي تصريحات لا تُمحى بسهولة خاصة أنها جاءت في لحظات مفصلية كانت فيها السعودية تخوض معارك أمنية وسياسية للحفاظ على أمنها القومي من هنا فإن أي تقارب محتمل لا يمكن أن يتم دون تنازلات جوهرية من الحزب في مقدمها فك الارتباط الاستراتيجي مع إيران والتخلي عن سياسة التدخل في شؤون الدول والقبول النهائي بحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية وهي شروط ليست يسير بل تكاد تلامس جوهر هوية الحزب وسبب وجوده
الحزب يدرك هذه الحقيقة لذا يطرح مبادرة مؤطرة بعنوان ” تجميد الخلافات” بدلًا من حلها وهو تعبير دبلوماسي لا يحمل في طياته استعدادًا لتنازلات فعلية بقدر ما يهدف إلى خلق انطباع إيجابي لدى الرأي العام وربما اختبار رد الفعل السعودي لكن قراءة الرياض كما يبدو تتجاوز البعد الإعلامي وتستند إلى منطق المصالح لا الرسائل الرمزية ما يجعلها أقل حماسًا للاستجابة لدعوة ترى فيها محاولة لتخفيف الضغوط عن حزب بات أضعف من أن يملي شروطًه وأقل قدرة على فرض وقائع سياسية على الأرض خاصة مع تراجع دعمه الإقليمي وانكشاف جبهته اللبنانية الداخلية
بعيدا عن كل هذه الاعتبارات لا يمكن تجاهل أن أي مصالحة إن تمت بين السعودية وحزب الله ولو بشكل غير مباشر ستحمل آثارًا استراتيجية على المشهد اللبناني والإقليمي فهي ستمنح الحزب هامش لالتقاط أنفاسه سياسيًا وربما تساعد في تخفيف شدة الاستقطاب داخل لبنان بينما توفر للرياض فرصة لتعزيز نفوذها داخل بلد ظل لسنوات طويلة رهينة للمحاور الإيرانية المصالحة المحتملة ورغم صعوبتها الا انها ليست مستحيلة لكن شروطها ثقيلة ومكلفة والطرفان يعلمان أن ما كان يقال في زمن الصواريخ والبيانات النارية لم يعد يصلح في زمن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة من الاتفاق إلى الاستحقاقات السعودي الإيراني بوساطة صينية إلى الحرب على غزة وصولًا إلى الاستحقاقات السياسية المتتابعة في بيروت خصوصا ان السعودية تدرك جيدا أن لبنان لن يستقر دون تحقيق تسوية شاملة تتضمن جميع اللاعبين الفاعلين بمن فيهم حزب الله كما أن العودة إلى منطق الإقصاء قد يفتح جبهات داخلية تعرقل جهود المملكة في دعم الاستقرار وتستنزف نفوذها في ساحة تحتاج إلى ترميم حذر وليس صدام مستدام
الواقع الجديد يقضي من السعودية مراجعة مرنة لا تتخلى فيها عن ثوابتها وتقرأ خلالها التحولات بعين واقعية سيما وان المطلوب ليس احتضانً سياسيً للحزب بل تهيئة مناخ يدفعه إلى التراجع عن أدواره الإقليمية السابقة وتشجيعه على الاندماج ضمن مؤسسات الدولة لا فوقها وقد يكون من الحكمة هنا أن تختبر الرياض جدية الحزب من خلال التزامه بعدم التدخل في اليمن واحترامه لسيادة الحكومة اللبنانية واستعداده الحقيقي لتسليم السلاح للدولة ضمن إطار سيادي شامل لا مجتزأ
في ظل تسارع وتيرة التحولات الإقليمية لم تعد المصالحة خيارًا عاطفيًا أو استجابة لضغوط مؤقتة بل ضرورة استراتيجية تفرضها طبيعة التحديات المستجدة في المنطقة فإسرائيل التي تمددت في خرائط القوة والسيطرة لم تعد خطرًا محصورًا بجبهة جنوب لبنان أو القضية الفلسطينية بل تحولت إلى فاعل مباشر في المعادلة الإقليمية عبر تحالفات أمنية واستخباراتية واقتصادية تمتد من الخليج إلى شمال إفريقيا ومن هذا المنظور فإن إعادة تقييم الخصومات القديمة ومنها الخصومة بين حزب الله والسعودية قد تكون المدخل الأنسب لإعادة صياغة جبهة ردع عربية أشمل تعيد الاعتبار لفكرة الأمن الإقليمي المشترك وتوقف النزيف الداخلي الذي تسببه الانقسامات العبثية
لقد آن الأوان لتُستبدل الجدران العازلة بجسور التواصل فالتاريخ لا تغيره الشعارات بل التحولات الصامتة والمدروسة التي تمضي من تحت الطاولة لترسم واقعًا جديدًا على الطاولة نفسها و اللحظة الحالية قد تكون الأنسب لطرح أسئلة غير تقليدية عن جدوى القطيعة وإمكانات الحوار وحدود الواقعية في العلاقات بين القوى الإقليمية لكن أي تحول فعلي في العلاقة بين السعودية وحزب الله لن يتم إلا إذا غير الحزب من طبيعة سلوكه السياسي والعسكري وتخلى عن أدواره العابرة للحدود واقتنع بأن زمن الحرب المفتوحة انتهى وأن المرحلة المقبلة تفرض مقاربات مختلفة لا تتسع فيها البنادق للكلام ولا تكفي فيها الخطابات للتفاوض وبين واقع الحزب المتراجع وصعود السعودية كلاعب إقليمي محوري تظل المصالحة المحتملة أقرب إلى مناورة سياسية منها إلى تحوّل استراتيجي ما لم تتبدل المقدمات على الأرض وتُعاد صياغة المعادلات الكبرى من جديد
حتاما : أن الإصرار على اجتثاث الحزب كشرط مسبق لأي انفتاح لن ينتج سوى فراغات سياسية ملأتها أطراف أكثر راديكالية وأقل انضباطً والمقاربة الأكثر نجاعة قد تكون في دفع الحزب تدريجيًا نحو الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة عبر مفاوضات غير مباشرة تتولاها الحكومة اللبنانية لكن بدعم سياسي سعودي يبقي قنوات التأثير مفتوحة دون التطبيع الكامل ودون الانخراط في صفقات ثنائية ساذجة وربما آن الأوان للسعودية أن تنظر إلى حزب الله خارج زاوية التصنيف الأمني الحاد وأن تضعه في موقعه الطبيعي كأحد المكونات اللبنانية المؤثرة التي لا يمكن القفز فوقها في أي مشروع سياسي مستقر وعلى السعودية أيضًا أن تدرك أن أمنها لن يتحقق بكسر الخصوم بل باحتوائهم بعقل الدولة لا بغرائز الثأر والمطلوب اليوم ليس قبولًا أيديولوجيًا بحزب الله بل اعتراف واقعي بوجوده والتعامل معه ضمن مسارات سياسية وأمنية قابلة للضبط، تصبّ في مصلحة الدولة اللبنانية وتخدم أمن الخليج في آن معًا
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com