ماذا يحمل لقاء الملك مع رؤساء الوزراء السابقين من رسائل سياسية وأمنية؟

شكّل اللقاء الذي جمع جلالة الملك عبدالله الثاني بعدد من رؤساء الوزراء السابقين في قصر الحسينية أول من أمس، محطة سياسية بارزة، حملت دلالات متعددة، تتجاوز الطابع البروتوكولي، لتكرّس نهجا قائما على التشاور والتوافق الوطني في مواجهة التحولات الإقليمية والضغوط الداخلية.
وأكّد خبراء بالشأن السياسي والإستراتيجي، في تصريحات لـ”الغد”، أن اللقاء مثّل لحظة سياسية مفصلية تحمل دلالات عميقة، وتؤكد أن الأردن بقيادته ونخبه، يدير الأزمات من موقع الفعل لا رد الفعل، عبر نهج عقلاني قائم على استشراف التحديات، وصياغة المواقف الوطنية الجامعة في وجه التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.
وأشار الخبراء إلى أن توقيت اللقاء لم يكن عفويا، بل جاء في سياق إقليمي، وصف بأنه الأكثر اضطرابا في العقدين الماضيين. ففي ظل استمرار عدوان الاحتلال على غزة، وارتفاع عدد الشهداء لأكثر من 65 ألفا و165 ألف جريح ومصاب، ووسط تحذيرات من مخططات تهجير قسري للفلسطينيين، يجد الأردن نفسه أمام تحديات مباشرة تمس أمنه القومي.
وبينوا أن اللقاء تزامن مع محاولات تبريد جبهة غزة، مقابل تسخين جبهات إقليمية أخرى، ما يعكس وعيا إستراتيجيا من القيادة الأردنية، بضرورة التحرك استباقيا لمواكبة التحولات المتسارعة.
ولفتوا إلى أن دعوة رؤساء الحكومات السابقين لاجتماع مع جلالة الملك في هذا التوقيت، تعكس توجها نحو إشراك أصحاب الخبرة السياسية العميقة في نقاشات حساسة، تتعلق بالسيادة والمواقف الإقليمية، مشددين على أن هذا اللقاء، يعزز الثقة الداخلية، ويشير إلى أن صناعة القرار الأردني لا تتم في نطاق ضيق، بل ترتكز على الرؤية الإستراتيجية للنخب الوطنية.
ونوّهوا إلى أن حضور شخصيات بارزة مثل رئيس مجلس الأعيان ومدير المخابرات العامة؛ يؤكد أن الملفات المطروحة، تجاوزت البعد السياسي التقليدي، لتشمل أبعادا أمنية داخلية متشابكة مع التطورات الإقليمية.
أما خارجيا، فعكس اللقاء، وفق تحليلات الخبراء، موقفا أردنيا متماسكا يرفض أي محاولات لإقصاء المملكة من المعادلات السياسية في الإقليم، ويجدد التأكيد على ثوابت الأردن تجاه القضية الفلسطينية، وعلى رأسها دعم حل الدولتين، ورفض التهجير أو تغيير الوضع القائم في القدس.
ورأى الخبراء أن اللقاء، قد يشكّل تمهيدا لمرحلة دبلوماسية جديدة، تبنى على التشاور الداخلي الموسع وتكثيف التنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة، خصوصا بعد ما وصف بأنه تطور إيجابي في الاعتراف الدولي المتزايد بالدولة الفلسطينية.
كما أشاروا إلى أن مشاركة جلالة الملك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما رافقها من لقاءات دولية، شكّلت محورا مهما في الاجتماع، بحيث أطلع جلالته الحضور على تفاصيل الاتصالات والنتائج، في سياق صياغة موقف أردني جامع ومتماسك في مواجهة مشروع الاحتلال الذي لا يهدد فلسطين فقط، بل يمتد ليطال المصالح الأردنية بشكل مباشر.
دلالات زمانية ومكانية عميقة
من جانبه، رأى الخبير العسكري والإستراتيجي د. نضال أبو زيد، أن لقاء جلالة الملك رؤساء الوزراء السابقين بقصر الحسينية، حمل دلالات زمانية ومكانية عميقة، تؤكد أن اللقاء لم يكن تقليديا، بل يعكس قراءة دقيقة لمتغيرات الإقليم، وتوجها إستراتيجيا لإعادة صياغة الفكر السياسي الأردني في ضوء المستجدات الراهنة.
وفي تحليله للدلالات الزمانية، أكد أبو زيد، أن اللقاء جاء في سياق إقليمي معقّد للغاية، تفرض فيه التطورات ضغوطا متزايدة على الدول، وخصوصا الأردن، موضحا بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تبريد جبهة غزة من جهة، في الوقت الذي تشهد فيه جبهات أخرى، وعلى رأسها الجبهة الإيرانية، تصعيدا لافتا.
وقال إن هذا التوقيت، يعكس إدراكا أردنيا بضرورة إعادة مواءمة الخطاب الرسمي مع المزاج الشعبي العام، مشيرا إلى أن اللقاء أكد وجود تناغم حقيقي بين الرؤى الرسمية والشعبية، وهو ما تجلى بإشراك النخب السياسية صاحبة الفكر والخطاب المعتدل، بهدف بلورة موقف وطني جامع في مرحلة بالغة الحساسية.
أما من حيث الدلالات المكانية، فرأى أبو زيد، أن انعقاد اللقاء في قصر الحسينية ليس مجرد اختيار رمزي، بل يحمل بعدا عمليا يرمي لاستمزاج آراء نخبة سياسية مطلعة على تفاصيل الشأن الأردني الداخلي والخارجي، مشيرا إلى أن رؤساء الوزراء السابقين الذين شاركوا في اللقاء، لديهم اطلاع واسع على الملفات الوطنية، سواء في بعدها الاقتصادي أو السياسي أو الإقليمي.
وأكد أن جلالة الملك، عبر هذا اللقاء، سعى لاستقراء أعمق ما في فكر النخب السياسية، وخصوصا رؤساء الحكومات الذين خاضوا تجارب عملية في إدارة ملفات الدولة، من أجل بلورة رؤية دبلوماسية واضحة، تواكب التحولات وتستبق التصعيد المتوقع في عدد من القضايا الإقليمية، بالتوازي مع ما وصفه بـ”تبريد جبهة غزة”.
وفي تحليله لطبيعة الحوار الذي دار خلال اللقاء، أشار أبو زيد إلى أن ما يمكن تسميته بـ”لقاء الحسينية”، تميز بلغة خطاب دافئة ومباشرة بين جميع الأطراف الحاضرة، في إشارة إلى المستوى العالي من الانفتاح، والتواصل بين القيادة السياسية والنخب المشاركة.
وأشار إلى أن اللافت في الاجتماع، كان حضور مدير المخابرات العامة من بين قادة الأجهزة الأمنية، إلى جانب رئيس مجلس الأعيان، ما يعزز فرضية أن الملفات التي نوقشت، لم تكن محصورة بالسياسة الخارجية فقط، بل تطرقت أيضا إلى قضايا داخلية متشابكة مع المعطى الإقليمي.
وأوضح، أن حضور رؤساء الوزراء السابقين، أتاح طرح عدد من الملفات الحساسة والجدلية التي أثيرت مؤخرا في المجتمع الأردني، مؤكدا أن اللقاء مثّل مساحة فكرية جادة، جرى خلالها تبادل الرؤى والخروج بتصور جماعي حول طبيعة التحديات وأولويات المرحلة.
وتابع، أن اللقاء لم يكن مناسبة بروتوكولية، بل أعاد إنتاج حالة من الانسجام الوطني السياسي، وطرح ملامح مسار دبلوماسي أردني جديد، يتسم بالوضوح والانفتاح والاستباقية، بخاصة في ظل مرحلة توصف بأنها انتقالية في ميزان القوى الإقليمي، ووسط مؤشرات متصاعدة، وتصعيد في بعض الملفات، مقابل محاولات تهدئة في ملفات أخرى، على رأسها غزة.
فعل سياسي محسوب بدقة
الخبير الأمني والإستراتيجي د. بشير الدعجة، بين أن لقاء جلالة الملك برؤساء وزراء سابقين، لم يكن لقاء بروتوكوليا عابرا، بل شكل فعلا سياسيا محسوبا بدقة، له أبعاد إستراتيجية عميقة، تتعلق بالتوقيت، وتركيبة الحضور، والرسائل الموجهة داخليا وخارجيا، وهو في مجمله، يعكس إدراك الأردن لموقعه ودوره ومسؤوليته في ظل ظرف إقليمي بالغ الاضطراب.
وقال الدعجة، إن انعقاد هذا اللقاء جاء في مرحلة إقليمية، تعد من بين الأخطر في العقدين الماضيين، لا سيما في ظل استمرار الحرب المدمرة على غزة، بكل من حملته من عمليات قتل وتدمير للبنية التحتية، والتهديد المستمر بالترحيل القسري للفلسطينيين نحو دول الجوار، ما يضع الأردن في عين العاصفة، نظرا للارتباط التاريخي والجغرافي والديموغرافي مع فلسطين.
كما أشار إلى أن الأردن، يواجه أيضا تحديات مركبة ناجمة عن استمرار الأزمة السورية، والتي أسفرت عن استقبال أكثر من 1.3 مليون لاجئ سوري، يشكلون نحو 13 % من سكان المملكة، في حين بلغت كلفة استضافتهم أكثر من 10 مليارات دولار في السنوات العشر الماضية، وفق تقديرات حكومية.
وأكد الدعجة أن هذه المعطيات تفرض ضغطا اقتصاديا وأمنيا كبيرا، ما يجعل التحرك الأردني في هذا التوقيت، ليس مجرد رد فعل آني، بل قراءة استباقية تهدف لحماية الأمن القومي.
وشدد الخبير الأمني والإستراتيجي، على أن اختيار جلالة الملك للقاء برؤساء الوزراء السابقين، يعكس رسالة جوهرية مفادها أن القضايا السيادية الكبرى، ليست مسؤولية حكومة قائمة حسب، بل هي شأن وطني جامع، يتطلب الاستفادة من الخبرات التراكمية لشخصيات سياسية، تولّت إدارة الحكم وصنع القرار على مدى عقود.
وأكد أن هذه المقاربة، تعزز الثقة الداخلية بأن الموقف الأردني يصاغ في إطار تشاوري واسع، يمثل رؤية الدولة العميقة، وهو ما يتقاطع مع ما أشار إليه “مركز الدراسات الإستراتيجية” في الجامعة الأردنية العام 2024، والذي أظهر أن 68 % من الأردنيين، يرون بأن مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، تتطلب توافقا وطنيا شاملا، معتبرا بأن اللقاء جسّد هذا التوجه عمليا.
وعلى الصعيد الداخلي، رأى الدعجة بأن الاجتماع يبعث برسالة تطمين للأردنيين، بأن الدولة تعمل بروح الشراكة والشفافية، وتستثمر في كل خبراتها لتعزيز اللحمة الوطنية، بخاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد، إذ بلغت نسبة البطالة 21 % في الربع الأول من العام الحالي، وفق دائرة الإحصاءات العامة.
أما خارجيا، فأكد أن اللقاء وجّه رسائل واضحة، تفيد بأن الأردن يرفض تهميشه أو تجاوزه، وأنه متمسك بثوابته التاريخية بدعم القضية الفلسطينية، ورفض أي مخططات تمس سيادته أو تغيّر الحقائق على الأرض.
ولفت إلى أن هذا الموقف ليس طارئا، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الأردن، قدم منذ العام 1948، أكثر من 20 ألف شهيد على أرض فلسطين دفاعا عن الحق العربي، بالإضافة إلى أنه صاحب الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهو ملف لا يمكن القفز عليه أو التلاعب به، على حد تعبيره.
ومن منظور إستراتيجي، اعتبر الدعجة أن هذا اللقاء، يمثل بداية لمرحلة جديدة في بلورة موقف أردني جامع، يوازن بين ضرورات حماية الجبهة الداخلية، ومتطلبات الانخراط في المعادلة الإقليمية.
وأوضح أن الموقع الجيوسياسي للأردن، المحاط بسورية والعراق وفلسطين والسعودية، يجعله في قلب التفاعلات الإقليمية، كما أن شبكة علاقاته الدولية المتوازنة مع الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية، تمنحه قدرة مضاعفة على التأثير والوساطة وصياغة مواقف تراعي المصالح الوطنية.
وبين أن اللقاء لم يكن مجرد جلسة حوارية، بل ممارسة عملية لنهج الدولة الأردنية في إدارة الأزمات، القائم على التشاور وتوظيف الخبرة السياسية والتاريخية، مؤكدا أن الأردن لا يكتفي بردود الأفعال، بل يتحرك استباقيا لصياغة استجابات متوازنة وفاعلة، وهو ما يجعل هذا اللقاء خطوة تأسيسية نحو موقف أردني راسخ وشامل في مواجهة التحديات المتصاعدة على المستويين الإقليمي والدولي.
تحوّل دبلوماسي يستوجب الاستثمار
من ناحيته، رأى رئيس الجمعية الأردنية للعلوم السياسية د. خالد شنيكات، أن اللقاء الملكي، جاء في سياق تشاركي، يهدف لإطلاع الشخصيات السياسية المخضرمة على صورة شاملة للتطورات الأخيرة، لا سيما نتائج مشاركة الأردن في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولقاءات جلالة الملك مع عدد من قادة ورؤساء دول العالم.
وقال شنيكات، إن اللقاء تطرق إلى أبعاد التنسيق الأردني مع الدول العربية الشقيقة، إضافة إلى التطورات اللافتة في القضية الفلسطينية، بخاصة عقب اعتراف عدد من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، وهو ما اعتبره تحوّلا دبلوماسيا مهما يستوجب استثمارا سياسيا أردنيا مدروسا.
وأضاف شنيكات، أن اللقاء عكس رغبة جلالة الملك في الاستماع لوجهات نظر رؤساء الوزراء السابقين، وفتح النقاش حول الرؤى المستقبلية بشأن القضية الفلسطينية والتحديات الإقليمية، بخاصة في ظل ما وصفه بـ”المشروع الإسرائيلي” الذي لم يعد يقتصر على استهداف قطاع غزة فقط، بل بات يشمل الضفة الغربية أيضا، ما يشكل مساسا مباشرا بالمصالح الوطنية الأردنية وتوازنات الإقليم.
وأكد أن التطورات الحالية، تتطلب موقفا أردنيا دقيقا ومدروسا، وأن هذا النوع من اللقاءات يسهم بتعزيز الشرعية السياسية الداخلية، ورفع منسوب التوافق الوطني حول قضايا مصيرية، مشيرا إلى أن التحولات الجارية على الساحة الإسرائيلية، تحمل طابعا استفزازيا واضحا، يهدف إلى قلب قواعد اللعبة في المنطقة، وهو ما لا يمكن للأردن تجاهله.
وأشار شنيكات، إلى أن التغيرات الدبلوماسية التي حدثت مؤخرا على مستوى الخطاب الدولي إزاء فلسطين، تصب في صالح القضية، لكنه شدد في المقابل على أن إنجاز الدولة الفلسطينية، ما يزال يتطلب مشوارا طويلا وجهدا سياسيا ودبلوماسيا مستمرا.
وقال إن “الأهم في هذه المرحلة، هو العمل على وقف الحرب الدموية على قطاع غزة، والتي تستمر في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية ورفضها لأي مقترحات أو تسويات”، موضحا أن هذا الموقف المتشدد يعقّد الجهود الدولية المبذولة ويزيد من خطورة المشهد.
وأكد شنيكات، أن اللقاء مثّل فرصة لمشاركة الرؤية الأردنية الرسمية مع شخصيات قادت العمل التنفيذي في فترات سابقة، واطلاعهم على خريطة التحركات الأردنية القادمة، كما يمكن اعتباره تمهيدا لمرحلة جديدة في السياسة الأردنية الخارجية، تحسبا لأي تغيّرات إقليمية أو مفاجآت على صعيد المشهد العام.
وأشار إلى أن ما طُرح في اللقاء، يعكس خطا دبلوماسيا مستقيما وواضحا، يسعى الأردن عبره للحفاظ على مصالحه الوطنية، والقيام بدور فاعل بدعم القضية الفلسطينية، والدفاع عن الاستقرار الإقليمي في ظل التحديات المتزايدة.
وكان جلالة الملك عبدالله الثاني أكد خلال لقائه رؤساء وزراء سابقين بقصر الحسينية، أن الأردن على أتم الاستعداد لحماية سيادته وأمنه في ظل التحديات الإقليمية الراهنة.
وجاء هذا اللقاء بعد زيارة جلالته الناجحة إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث جرى استعراض التطورات الإقليمية والدولية، خصوصًا القضية الفلسطينية والأوضاع في غزة.
وأشار الملك إلى التنسيق المستمر مع الأشقاء العرب والشركاء الدوليين حول الخطة الشاملة الخاصة بقطاع غزة، والتي حظيت بتوافق كبير، مؤكدا الإجماع الدولي على حل الدولتين كطريق وحيد لتحقيق السلام في المنطقة.
كما تطرق اللقاء إلى العدوان الإسرائيلي على قطر، معتبرا إياه رسالة إرهاب تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة، وأكد أن هذا العدوان أضر بعلاقات إسرائيل مع دول الإقليم.
كما بحث اللقاء مجمل الأوضاع في سورية ولبنان، مع تأكيد حرص الأردن على دعم سيادة واستقرار البلدين، مشددا على استمرار الأردن في مسارات التحديث الاقتصادي رغم الصعوبات الإقليمية، مع أهمية إنجاز المشاريع الاقتصادية الحالية.
وحضر اللقاء إلى جانب عدد من رؤساء الوزراء السابقين، رئيس الديوان الملكي ومدير مكتب جلالة الملك ومدير المخابرات العامة، ما يعكس أهمية اللقاء، وتناسق الرؤى الوطنية تجاه التحديات الإقليمية الراهنة.
إيمان الفارس/ الغد