اللواء الطيار المتقاعد محمد علي فلاح القضاه… صقر عجلون الذي حلق في سماء الوطن

=

إعداد: منيب عبدالله فندي القضاه
عين جنا – خاص

—-

في بلدة عين جنا الوادعة بين جبال عجلون العالية وعبق التاريخ ولد عام 1945م رجل سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الوطن وسلاح الجو الملكي الأردني إنه اللواء الطيار المتقاعد محمد علي فلاح القضاه أحد الرجال الذين صنعوا المجد بصمتٍ وتركوا في سماء الأردن أثرًا لا يُمحى.

نشأ في بيت أردني أصيل تربى على قيم الكرامة والانتماء وتشرّب منذ طفولته حب الأرض والسماء معًا فكان منذ صغره يتأمل الطائرات وهي تعانق الغيوم ويحدّث نفسه أن يكون يومًا من حراسها. بعد إنهاء دراسته التحق في العام 1964 بسلاح الجو الملكي الأردني تلميذًا مرشحًا للطيران وكان ذلك أول خطوة في مسيرة امتدت لعقود من الشرف والانضباط.

ابتعث إلى المملكة المتحدة ليتلقى تدريبه في أكاديمية الطيران الحربي البريطانية وعاد إلى الوطن عام 1966 طيارًا مقاتلًا يحمل الحلم والإصرار. لم تمضِ أشهر قليلة حتى خاض غمار التحديات الكبرى التي واجهها الوطن في حرب حزيران عام 1967 حيث شارك في المهام الجوية دفاعًا عن سماء الأردن. وبعد الحرب كان ضمن السرب الأردني الذي توجه إلى قاعدة الحبانية في العراق ثم إلى قاعدة الضمير في سوريا دعمًا للجهود العسكرية العربية المشتركة في تلك المرحلة التاريخية الحساسة.

كان محمد القضاه من أوائل الطيارين الأردنيين الذين امتلكوا روح القيادة المبكرة فكان صارمًا في الميدان متواضعًا خارج الطائرة هادئ القرار لكنه جريء في الموقف يحظى باحترام زملائه ومحبة مرؤوسيه. ومنذ سنوات خدمته الأولى عُرف بأنه رجل الميدان الذي لا يطلب من جنوده ما لم يفعله بنفسه.

تدرج في الرتب والمناصب داخل سلاح الجو حتى تولى قيادة عدد من القواعد الجوية المهمة فقاد قاعدة الشهيد موفق السلطي الجوية ثم كلية الحسين الجوية ثم قاعدة الأمير حسن الجوية ليثبت في كل موقع كفاءته في التنظيم والانضباط والتطوير. ومع نهاية الثمانينيات أصبح مديرًا للعمليات الجوية حيث وضع بصمته في تحديث أساليب التدريب ورفع الكفاءة القتالية للطيارين.

في مطلع التسعينيات عُيّن ملحقًا دفاعيًا في السفارة الأردنية بباريس فكان خير ممثل للأردن في المحافل العسكرية والدبلوماسية ثم عاد ليتولى منصب مساعد رئيس أركان سلاح الجو للشؤون الإدارية ثم للعمليات والتدريب والدفاع الجوي قبل أن يُعيّن عام 1994 قائدًا لسلاح الجو الملكي الأردني في عهد المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.

عُرف اللواء القضاه بأنه قائد ميداني إصلاحي يمزج بين الانضباط العسكري والرؤية التطويرية فقد آمن أن الطيران ليس مجرد مهنة بل رسالة وطنية وأن من يقود السماء يجب أن يكون قد لمسها بيديه. عمل على تحديث أنظمة التدريب والإشراف على إدخال الطائرات المقاتلة الحديثة مثل الإف-16 إلى الخدمة كما أولى اهتمامًا كبيرًا بالتعاون العسكري مع الدول الصديقة في مجالات الصيانة والتأهيل وتبادل الخبرات.

كان خلال خدمته مثالًا في التواضع والانضباط والهدوء وكان يرى أن القيادة ليست سلطة بل مسؤولية وأن العسكري الناجح هو من يزرع الثقة لا الخوف في قلوب من يقودهم. وقد ساهمت شخصيته المتوازنة في خلق بيئة من الثقة المتبادلة داخل سلاح الجو مما انعكس على أدائه وتميزه في تلك الحقبة المهمة من تاريخ المؤسسة العسكرية الأردنية.

بعد تقاعده من الخدمة العسكرية واصل اللواء محمد علي فلاح القضاه عطاؤه في ميادين أخرى فاختير سفيرًا للأردن في سلطنة عُمان ما بين عامي 1995 و1997 وهناك ترك بصمة طيبة بخلقه الرفيع وحكمته وحسن تمثيله لوطنه وشعبه.

عاد بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية إلى حياته العامة في محافظة عجلون وظل قريبًا من الناس مشاركًا في اللجان الوطنية والاجتماعية مؤمنًا أن خدمة الوطن لا تنتهي بخلع البزة العسكرية بل تستمر ما دام القلب ينبض بالانتماء. شارك في مؤتمرات وندوات عديدة وكان صوته دائمًا يحمل هموم الوطن والمواطن ودعوته الثابتة نحو الوحدة الوطنية والعدالة والتنمية المتوازنة.

نال اللواء محمد القضاه خلال خدمته وسام الاستقلال ووسام الكوكب الأردني ووسام النهضة ووسام معركة الكرامة ووسام الخدمة الطويلة والكفاءة إلى جانب أوسمة عربية ودولية تقديرًا لعطائه وإنجازاته وكان فخورًا دومًا بأن جميع إنجازاته تمت تحت راية الجيش العربي الذي أحبّه وأخلص له حتى آخر لحظة من حياته.

لم يكن اللواء القضاه قائدًا عسكريًا فقط بل كان إنسانًا بمعنى الكلمة زوجًا وأبًا حنونًا محبًا لعائلته التي رباها على حب الوطن والانتماء والصدق في العمل وكان بيته مفتوحًا للناس وصدوره رحبًا لمن يقصده في حاجة أو مشورة وكان يقول إن السماء تبتسم للطائر الذي لا ينسى عشه.

وفي الخامس من تشرين الأول عام 2025 ترجل فارس الطيران وصقر عجلون وغاب عن الدنيا جسدًا لكنه بقي حاضرًا في ذاكرة الوطن وفي قلوب من عرفوه ضابطًا شجاعًا وقائدًا نزيهًا وإنسانًا كبيرًا ترك بصمة مضيئة في تاريخ سلاح الجو الملكي الأردني.

رحم الله اللواء الطيار محمد علي فلاح القضاه وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن وطنه وأمته خير الجزاء فقد كان بحق أحد رموز العطاء والوفاء ورجلًا عاش للأردن ومات وهو على العهد ثابتًا في الولاء والكرامة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة