القطار الحجازي.. إرث تاريخي ينبض بروح تفاعلية في وادي رم

العقبة – ينبعث صوت صفير القطار الحجازي في وادي رم من جديد، حيث يتحول هذا الإرث التاريخي إلى منتج سياحي نابض بالحياة، يجمع بين عبق الماضي وروح المغامرة، ويعيد رسم ملامح الهوية الوطنية في تجربة تفاعلية لا تُنسى.
ويتاح للسائح ركوب القطار الحجازي من محطة الخط الحجازي في وادي رم متنقلا بين الجبال والمخيمات السياحية، ويشاهد عرضا تمثيليا يحاكي الثورة العربية الكبرى لتنتهي الرحلة بعد نحو مسافة لا تتجاوز 10 كم، ليعود القطار إلى نقطة انطلاقه.
يقول الرئيس التنفيذي للشركة الأردنية لإحياء التراث مؤيد أبو رمان “إن الشركة تقدم تجربة القطار الحجازي كأحد أبرز منتجاتها السياحية المبتكرة كسرد حي لتاريخ الأردن، يدمج بين الثقافة والمغامرة والتعليم، ويعد جزءا من مشروع (مثلث النهضة) الذي يربط بين قصر الملك المؤسس في معان، وبيت الشريف الحسين بن علي في العقبة، وتجربة القطار في وادي رم”.
وأشار أبو رمان إلى “أننا بهذا المنتج السياحي تمكنا من إعادة إحياء الذاكرة الوطنية”، مؤكدا “أن هذا المنتج السياحي هو تجسيد لرؤية جلالة الملك في تحويل الإرث إلى تجربة تفاعلية تعزز الانتماء وتثري السياحة الداخلية والخارجية، في تجربة تبدأ من المتاحف ومحطات الثورة، حيث يتعرف الزائر على تفاصيل دقيقة من تاريخ الثورة العربية الكبرى، من خلال معروضات تفاعلية وصور أرشيفية نادرة، ثم ينتقل إلى محطة القطار، حيث يستقل القطار الحجازي وسط أجواء تمثيلية تحاكي لحظات الثورة، بصوت صفير القطار وصهيل الخيول وظهور شخصيات تمثل أبطال التحرر”.
وبحسب أبو رمان، فإن “فوائد هذا المنتج السياحي لم تقتصر على الجانب الثقافي فقط، بل تمتد لتشمل الأثر المحلي والاجتماعي والاقتصادي، من خلال توفير المشروع فرص عمل لأبناء المجتمع المحلي، عبر تدريبهم على التمثيل والإرشاد السياحي وإدارة الفعاليات، مما يعزز من تمكين الشباب في منطقة وادي رم ومعان والعقبة”.
جمع بين التاريخ والحاضر
من جهتها، تقول خبيرة السياحة التراثية الدكتورة رنا الطراونة “إن تجربة القطار الحجازي في وادي رم يعد منصة تفاعلية تجمع بين التاريخ والحاضر، وبين الترفيه والمعرفة في مشهد واحد”، مؤكدة “أن القطار الحجازي يمثل إحياء لذاكرة المكان والإنسان، إذ يربط الزائر بتاريخ عربي أصيل، ويعيد تقديمه بروح عصرية تعزز الهوية الوطنية والانتماء للأرض، وهذه التجربة الفريدة تتجاوز البعد السياحي التقليدي لتصبح أداة تعليمية وثقافية تتيح للأجيال الناشئة فهم القيم التي انطلقت منها الثورة العربية الكبرى، وتدرك من خلالها معنى التضحية والنهضة”.
وترى الطراونة “أن دمج هذه التجربة ضمن برامج السياحة في المثلث الذهبي يجعل منها جسرا بين السياحة التراثية والتنمية المحلية، إذ تسهم في خلق فرص عمل وتنشيط المجتمعات المحيطة، وتعزيز صورة الأردن كوجهة تستثمر في إرثها الثقافي بروح من التجديد والإبداع”.
أما الباحث في التاريخ الأردني الدكتور بكر المجالي، فيؤكد “أن القطار الحجازي هو شاهد حي على لحظة مفصلية في تاريخ العرب، لحظة تماهى فيها الحلم بالنهضة مع إرادة التحرر”، مشيرا إلى “أن إعادة إحياء هذا القطار بهذه الصورة التفاعلية في وادي رم انتصار للذاكرة الجمعية، واستعادة لصوت التاريخ الذي ما يزال يصدح في هذه الصحراء العريقة، ورسالة عميقة مفادها أن الأمم التي تحفظ تاريخها قادرة على صناعة مستقبلها، وأن القطار الحجازي أصبح رمزا حيا للهوية والوفاء للجذور”.
ويقول محمد الزوايدة أحد الشباب المشاركين في المشروع “كنت أعمل في الزراعة، واليوم أنا ممثل في تجربة القطار، أروي قصة أجدادي للزوار”، مشيرا إلى “أن هذا المشروع غيّر حياتي، وأعطاني فرصة لأكون جزءا من سردية وطنية عظيمة”.
وأضاف “كما ساهم المشروع في تنشيط السياحة النهارية في وادي رم، من خلال دمج تجربة القطار مع رحلات الدفع الرباعي وجولات غروب الشمس والمخيمات والطهي التراثي (الزرب)، مما زاد من مدة إقامة الزائر ورفع من إنفاقه السياحي”.
إطالة مدة إقامة السائح
إلى ذلك، يؤكد المواطن محمد البصول “أن هذا النوع من السياحة هو ما يبحث عنه العالم اليوم، من خلال السياحة التي تروي قصة وتدمج بين المشاعر والمعرفة وتترك أثرا في القلب قبل الصورة في الهاتف”، مشيرا في الوقت ذاته، إلى “أن فكرة القطار وإعادة إحيائه في صحراء وادي رم تطيل من مدة إقامة السائح”.
وكان القطار الحجازي في وادي رم قد بدأ كوسيلة لنقل الحجاج والبضائع في مطلع القرن العشرين، وتحول اليوم إلى رمز تاريخي وسياحي يُعاد إحياؤه لإحياء ذاكرة الثورة العربية الكبرى وتعزيز السياحة في جنوب الأردن.
وبدأت قصته في عام 1900 عندما أمر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإنشاء سكة حديد تربط دمشق بالمدينة المنورة لتسهيل رحلة الحجاج المسلمين وتقوية السيطرة العثمانية على الحجاز، ووصل الخط إلى وادي رم كجزء من الامتداد الجنوبي نحو المدينة المنورة، مرورا بمناطق صحراوية إستراتيجية من بينها منطقة وادي رم التي شكلت نقطة توقف مهمة في قلب الصحراء، حيث كانت تزود القطارات بالماء والفحم وتخدم الحجاج والتجار.
وخلال الثورة العربية الكبرى (1916 – 1918)، استخدم الثوار العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي القطار الحجازي كهدف إستراتيجي، حيث نفذوا عمليات تخريبية ضده لشل الحركة العثمانية، وما تزال آثار التفجيرات والمعدات القديمة موجودة في وادي رم، مما يجعلها شاهدا حيا على تلك المرحلة التاريخية. وبعد انهيار الدولة العثمانية تراجعت أهمية الخط تدريجيا وتوقفت حركة القطارات المنتظمة وتحولت عربات القطار والمحطات إلى هياكل مهجورة وسط الصحراء، لكنها بقيت تحت إدارة مؤسسة الخط الحجازي الأردني التي تأسست رسميا عام 1920.
يشار إلى أن القطار تم تشغيله بداية العام 2022، وشغل فعليا قبل نحو عام ونصف بين عامي 2022 و 2024.
واستقبل القطار الحجازي نحو 48 ألف زائر من 124 جنسية مختلفة.
وفي السنوات الأخيرة، أعادت الشركة الأردنية لإحياء التراث إحياء القطار الحجازي في وادي رم بهدف تحويله إلى تجربة سياحية فريدة تعيد تمثيل مشاهد الثورة العربية الكبرى، حيث يتم استخدام عربات أصلية وقاطرات بخارية لنقل الزوار في جولات تحاكي التاريخ من خلال الربط بين التراث والترويج السياحي، ويعزز ذلك من مكانة وادي رم كوجهة عالمية تجمع بين الطبيعة والتاريخ.