الأردن يعيد هندسة الأمن الدولي: “اجتماعات العقبة” تتحول لمنصة دولية لمكافحة الإرهاب

 في مشهد إقليمي ودولي، تتعقد فيه مسارات الصراع، وتتصاعد فيه أشكال الإرهاب العابر للحدود بأدوات رقمية وشبكات تمويل معقدة، برزت مبادرة “اجتماعات العقبة” التي أطلقها جلالة الملك عبدالله الثاني في عام 2015 كمنصة دولية رائدة، لإعادة تعريف مفهوم التعاون الأمني العالمي.
لقد تحولت”اجتماعات العقبة” خلال أقل من عقد من الزمن، إلى إطار عمل متقدم، يجمع بين الخبرة العملياتية، والرؤية الإستراتيجية، والإرادة السياسية، لتشكّل أحد أكثر المنظومات تأثيرًا في مكافحة الإرهاب المعاصر، إذ لم تعد عمليات مكافحة الإرهاب شأنا عسكريا أو أمنيا فقط، بل أصبحت جزءا من توازنات النفوذ والتحالفات الجيوسياسية في العالم.
وفي هذا السياق المضطرب، برزت الأردن كفاعل مؤثر في هذا النطاق، يقود جهدًا دوليًا عمليًا وغير تقليدي، لمواجهة أخطر تهديد تجابهه الإنسانية، وهو الإرهاب العابر للحدود، إذ إن “اجتماعات العقبة” ليست مجرد سلسلة اجتماعات أمنية، بل تحولت إلى مشروع إستراتيجي عالمي، يعنى ببناء فكر أمني تشاركي، ينبع من المنطقة ولا يُفرض عليها.
تأسيس «اجتماعات العقبة»
لم تولد مبادرة “اجتماعات العقبة” جراء فراغ سياسي أو أمني؛ بل خرجت كاستجابة إستراتيجية، في وقت كان فيه الإرهاب في ذروة توسعه عالميًا. وكان عام 2015، عام مواجهة مصيرية بين العالم وتنظيم “داعش الإرهابي”، الذي سيطر على مساحات واسعة في العراق وسورية، وفرض واقعًا دمويًا وتهديدًا غير مسبوق على الأمنين الإقليمي والدولي. لذا أدرك الأردن الذي يعيش وسط إقليم ملتهب، بأن الانتظار لم يعد خيارًا، وبأن الاكتفاء برد الفعل لا يكفي، فانتقل إلى موقع الفعل والمبادرة.
تميّزت المقاربة الأردنية في التعامل مع الإرهاب بواقعيتها ومباشرتها وابتعادها عن الدعائية، إذ وصلت الأردن لقناعة مبكرة، بأن الحروب التقليدية وحدها غير كافية، وبأن انحسار التنظيمات الإرهابية عسكريًا لا يعني نهاية تلك الحروب، بل يعيد تشكيلها بأدوات جديدة، قد تكون أكثر خطرًا مثل: الإرهاب السيبراني، والذئاب المنفردة، والتجنيد عبر الإنترنت، والتنظيمات العابرة للقارات، والفوضى الأمنية في المناطق الهشة.
وهنا جاء تصميم مبادرة “اجتماعات العقبة”، كمنصة تتجاوز البيانات الإنشائية، وتنتقل لبناء آليات تعاون أمني واستخباري حقيقي، تجمع بين الأطراف الأكثر مواجهة للإرهاب في الميدان، والقوى الدولية القادرة على التأثير في المشهد.
مفهوم المبادرة وماهيته
إن ما قدمته “اجتماعات العقبة” من ناحية الفكر الإستراتيجي الأمني مهم؛ فقد نقلت ملف الإرهاب من نطاق العمل “الأمني المغلق” إلى “الأمني التشاركي الدولي”، بإشراك دول متأثرة مباشرة دون أن تقتصر على دول كبرى، والربط بين المستويات الأمنية والسياسية والفكرية، وتحويل مكافحة الإرهاب من رد فعل إلى إستراتيجية استباقية، واعتماد منهج إقليمي- دولي، وليس مجرد تحالف عسكري، بالإضافة لتبادل الخبرات العملياتية والاستخبارية على نحو مباشر.
لم تكن ولادة المبادرة، حدثًا عابرًا في أجندة السياسة الأردنية، بل جاءت كترجمة مباشرة لرؤية ملكية واضحة، عبّر عنها جلالة الملك في مناسبات دولية عديدة، حين شدد على أن “الحرب على الإرهاب ليست معركة عسكرية فحسب، بل معركة فكرية وأمنية واقتصادية، تستهدف حماية المجتمعات قبل الحدود”. ومنذ اللحظة الأولى، حملت فلسفة إستراتيجية تفيد بإن من يملك القدرة على جمع العالم حول طاولة الأمن، يملك القدرة على التأثير في مستقبل الاستقرار الدولي.
وفي هذه الرؤية الإستراتيجية الواضحة، اختيرت مدينة العقبة كنقطة انطلاق للمبادرة، لأن العقبة كمدينة تحمل رمزية خاصة في العقل الجمعي الأردني والإقليم، وهي أنها موقع إستراتيجي على مفترق ثلاث قارات، ونموذج أردني في الأمن والتنمية والتكامل الاقتصادي، بالإضافة لكونها بوابة للتعاون الدولي، بعيدًا عن ضوضاء العواصم السياسية.
في عام 2015 بدأت أولى الجولات، ولم تكن معروفة على نحو واسع في البداية، وذلك بسبب الطبيعة الأمنية والاستخبارية الحساسة للنقاشات، ولكن مع الوقت اتسعت المبادرة من لقاءات إقليمية إلى منصة عالمية تشارك فيها دول كبرى ومنظمات دولية وشركاء أمنيون.
حقائق حول المبادرة
بلغ إجمالي جولات “اجتماعات العقبة” منذ تأسيسها 34 اجتماعًا، منها 11 اجتماعا على مستوى رؤساء الدول، و14 دولة شاركت في الاستضافة، وقد تناولت الاجتماعات: شرق وغرب إفريقيا، والبلقان، وجنوب شرق آسيا، وأميركا اللاتينية.
وبسبب نتائجها المباشرة ومقاربتها العملية، تحولت المبادرة من مشروع إقليمي إلى منصة أمنية دولية متنقلة، ولم يعد الأردن المضيف الوحيد؛ بل بدأت دول أخرى تستضيف جولاتها بالشراكة مع المملكة، ومنها: إندونيسيا، وألبانيا، وهولندا، ونيجيريا، ورواندا، والولايات المتحدة، وسنغافورة، وإسبانيا، والنرويج، والبرازيل، وبلغاريا، والمملكة المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وإيطاليا. وهذا الانتقال، جعل المبادرة مشروعًا عالميًا بملكية مشتركة، لكنه حافظ على القيادة الأردنية الفكرية والأمنية.
الأكثر هشاشة أمنيًا في العالم
ركزت “اجتماعات العقبة” على المناطق والدول الأكثر هشاشة من الناحية الأمنية في العالم، والتي تتعرض لعمليات انتقال أو تمدد لعصابات إجرامية أو إرهابية إليها وفيها: فقد شهدت مناطق شرق إفريقيا نشاطات لحركة الشباب، إلى جانب ما تتعرض له مناطق أفريقية هناك من تبعات الهجرة غير الشرعية، وتهريب أسلحة، وانتشار لـ”داعش” الإرهابي في مناطق على الساحل، بالإضافة إلى الضعف الذي شهدته مالي والنيجر. بينما شهدت مناطق البلقان أيضا عودة لمقاتلين أجانب، يعملون على الانتشار في أوروبا أيضا، بالإضافة لتمدد خلايا لـ”داعش” الإرهابي في الفلبين وإندونيسيا، وجنوب شرق آسيا، وفي أميركا اللاتينية، تحولت شبكات للجريمة المنظمة لتنظيمات إرهابية.
إرهاب عبر الإنترنت
لم تبقَ المبادرة أسيرة الجغرافيا العربية، بل تبنت رؤية عالمية في مكافحة الإرهاب كمشكلة كونية لا تعترف بالحدود. وفي هذا الطار، تتشابه العديد من المؤتمرات والمنتديات الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب في العالم، لكن “اجتماعات العقبة” تمتلك ميزات فريدة، جعلتها تتمتع باحترام دولي، فهي عملية وفاعلة وليست خطابية، إنها تتجاوز البيانات وتنتقل إلى بناء تعاون أمني مباشر، بحيث يشتبك عملها الميداني مع القرار (تجمع صناع القرار الأمني والعسكري على طاولة واحدة)، وتركّز على الوقاية قبل المواجهة، إذ تهتم بمنع التطرف، وتعمل على تجفيف مصادره، بمعنى أن مهامها هنا، فاعلة في مجابهة مفاعيله ونتائجه.

Image1_10202515233657916083285.jpg
التأثير الإستراتيجي الكبير للأردن
ففي عالم العلاقات الدولية، ليس حجم الدولة أو مواردها من يحدد قوتها، بل قدرتها على إنتاج التأثير. وهذا ما فعلته الأردن في نطاق “اجتماعات العقبة”، وبرغم ما يحيطها من دول تعيش نزاعات داخلية وإقليمية (سورية، العراق، فلسطين)، فإنها لم تنكفئ على ذاتها، ولم تتذرّع بمحدودية إمكاناتها، بل واجهت التحدي بتحويل موقعها الجغرافي الصعب، إلى مركز أمني إقليمي، ومن ثم إلى منصة سياسية دولية لبناء أمن جماعي، فنجحت عبر هذه المبادرة، بإعادة تعريف دورها على الساحة الدولية من دولة متأثرة بالإرهاب إلى دولة تقود الحرب عليه، ومن دولة تبحث عن الدعم، إلى دولة توحّد الشركاء وتبني التحالفات، ومن دائرة التهديدات الأمنية إلى دائرة صناعة الأمن.
الأمن الأردني: معرفة وخبرة
طوال العقدين الماضيين، واجهت الأردن تحديات أمنية معقدة، لكنها نجحت بالحفاظ على استقرارها الداخلي، بفضل انتهاجها عقيدة أمنية متوازنة، تقوم على الأمن الوقائي وإحباط العمليات الإرهابية قبل وقوعها، ومكافحة فكر التطرف، ومواجهة الأيديولوجيا الإرهابية بالخطاب المضاد، وإدماج المجتمع، وتعزيز دور المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، وحماية أمن الحدود، وتطوير قدرات الردع والمراقبة، بالإضافة للتعاون الاستخباري، وبناء شبكة علاقات أمنية واسعة دوليًا.
هذه المقاربة؛ تحولت إلى أساس فكري لـ”اجتماعات العقبة”، ما جعل المبادرة ليست فقط تجمعًا أمنيًا، بل منصة لتصدير خبرة أردنية ناجحة عالميًا.
تستند المبادرة على توازن ذكي يجمع بين الأدوات الأمنية والسياسية والفكرية، فهي ليست تحالفًا عسكريًا فقط، وليست مؤسسة فكرية مجردة، بل مشروع يمزج بين القوة الصلبة، بتنسيق التدريب العسكري وتبادل المعلومات، وتعزيز قدرات مكافحة الإرهاب، والقوة الناعمة، عن طريق نشر خطاب الاعتدال وفتح قنوات الحوار وتحفيز التعاون الدولي والقوة الذكية، للجمع بين الدبلوماسية الأمنية والعمل الاستباقي.
وبهذا التوجه، أضحت المبادرة مقبولة دوليًا، فهي لا تفرض نموذجًا أيديولوجيًا، ولا تخضع لهيمنة دولة كبرى واحدة، بل تقوم على التعاون والشراكة بين الجميع.
العقبة منصة لا يمكن تجاوزها
أصبحت “اجتماعات العقبة”، حلقة وصل بين الشرق والغرب، والدول التي تخوض معارك مباشرة ضد الإرهاب، وتلك التي تملك القدرة على تشكيل السياسات الدولية. وبذلك؛ عزز الأردن مكانته كـوسيط إستراتيجي في الأمن الإقليمي، ودوره كمنتج استقرار، بدلاً من كونه متلقيًا له، بالإضافة لشراكاته مع حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وتمتين علاقاته مع العالم العربي وإفريقيا وآسيا.
تتحمل عمليات استضافة “اجتماعات العقبة” دلالات مهمة على المستوى السياسي والتعاون بين البلدان، تمكنت المبادرة الأردنية من صياغته، فحين استضافت دول مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وألبانيا والبرازيل هذه الاجتماعات، تجلى في المعنى المباشر لهذه الاستضافات، قوة فاعلية المبادرة، لما حققته من اعتراف دولي بقيمتها، بعد أن أصبحت منصة، تعزز الحضور الأردني داخل مراكز القرار العالمية، وتمنح الأردن ثقلًا سياسيًا كبيرا، وتضيف للعلاقات الأردنية- الدولية بُعدًا أمنيًا إستراتيجيًا.
ولا تنحصر قيمة “اجتماعات العقبة” في بعديها السياسي أو الدبلوماسي فقط، بل تمتد لتشكيل شبكة تعاون عملياتية وأمنية بين الدول والأجهزة والمؤسسات العسكرية والاستخبارية ومنظمات المجتمع المدني، فساهمت بتعزيز قدرات دول تواجه ضعفاً في أنظمتها الأمنية وضبط حدودها، ومكنت دول تعاني من هشاشة سيادتها من تجاوز هذه الاشاكالية في بنيتها، بما خلقته من تطوير لآليات عملها المشتركة بين الجيوش وقوات الدرك ووحدات مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني.
كما ساهمت بتدريب كوادر أمنية وعسكرية على مهارات مواجهة التهديدات غير التقليدية، خصوصاً الإرهاب العابر للحدود وتنظيمات الذئاب المنفردة والخلايا النائمة، وبناء منظومة إنذار مبكر عن طريق تبادل المعلومات الاستخبارية بين الدول المشاركة في الاجتماعات، ما أسهم بإحباط عمليات إرهابية في مراحل التخطيط، لتتجاوز “اجتماعات العقبة” بذلك، إطارها الوطني والإقليمي، ولتصبح ضرورة إستراتيجية للمجتمع الدولي في مواجهة أخطر تهديد يجابهه الأمن العالمي اليوم.
فالإرهاب العابر للحدود، لم يعد محصوراً بمناطق النزاعات التقليدية، بل أصبح ظاهرة مرنة ومتحركة وقادرة على إعادة تشكيل نفسها عبر العالم الرقمي، ما يمكنه من استغلال الفوضى السياسية والهشاشة الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية في بعض المناطق والدول.
لقد تزامن إطلاق “اجتماعات العقبة” في عام 2015 مع مرحلة حرجة، شهد فيها العالم تمددا شرسا لتنظيم “داعش” الإرهابي في العراق وسورية، قبل أن يبدأ هذا التنظيم، بالتحول إلى شبكة عالمية تنشط في إفريقيا وآسيا وأوروبا.
ومع سقوط “الخلافة المزعومة” في الشرق، تفرعت الجماعات الإرهابية إلى خلايا صغيرة مستقلة، تهدد الأمن العالمي بطرق غير تقليدية، من أبرزها هجمات الذئاب المنفردة في العواصم الأوروبية والتحول إلى الإرهاب الإلكتروني، والدعاية الرقمية عبر منصات التواصل وتهريب السلاح والمقاتلين عبر شبكات منظمة، تستغل ضعف الحدود بالإضافة لتجنيد الأطفال والنساء في مناطق النزاعات وتمويل الإرهاب عبر تجارة المخدرات وغسيل الأموال.
وفي ظل هذا التحول، أدركت الدول الكبرى بأن المقاربات التقليدية القائمة على القوة العسكرية وحدها، فشلت بإنهاء الإرهاب، ما دفعها للبحث عن إطار توافقي جديد. وهنا برزت “اجتماعات العقبة” كمبادرة تقدم حلولاً واقعية ومرنة خارج دائرة الصراع السياسي.
ربط الأمنين الإقليمي والدولي
وتقوم فلسفة “اجتماعات العقبة” على صياغة مبدأ جديد في الأمن العالمي، مفاده انه “لا أمن لدولة بمعزل عن أمن جيرانها”، فإذا بقيت مناطق إفريقيا الساحلية أو البلقان أو جنوب آسيا مكشوفة للإرهاب، فإن أوروبا والأردن وأميركا والخليج، ستكون الهدف القادم حتماً. لذلك، تبنت المبادرة 3 مرتكزات إستراتيجية في الربط الأمني هي: الأمن المتداخل، بنقل التعاون الأمني من الثنائية إلى الشبكات الإقليمية ومواجهة التهديد في منبعه، بالإضافة لضرب خطوط التجنيد والتمويل قبل وصولها إلى المنطقة، والتعاون العملياتي والتنسيق المشترك بين أجهزة المخابرات والقوات الخاصة.
لذلك، شاركت في المبادرة شبكات أمنية من 4 قارات، شملت دولا مثل: رواندا ونيجيريا وإندونيسيا وهولندا وألبانيا والبرازيل والولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وغيرها، لتكوين جدارا أمنيا عالميا مرنا قابلا للتكيف مع المتغيرات.
سدّ فجوة العمل الدولي
وبرغم وجود مؤسسات أمنية دولية، مثل مجلس الأمن الدولي والتحالف الدولي ضد “داعش الإرهابي”، فإن هذه الأطر تعاني من ضعف التنسيق العملي، وغياب الحوار المباشر بين الأجهزة الأمنية ذاتها، لذلك؛ جاءت “اجتماعات العقبة” لتسد 3 فجوات حيوية: الفجوة العملياتية والتي تربط المعلومة الاستخبارية بالقرار الأمني على الأرض بسرعة، والفجوة التقنية عبر مشاركة خبرات مكافحة الإرهاب السيبراني ومواجهة التجنيد عبر الإنترنت، والفجوة المؤسسية الهادفة لإشراك منظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والإعلام في المعركة. وبهذا، تحولت العقبة إلى منصة “تنفيذية” وليست مجرد منتدى للنقاش السياسي.
لماذا تتمسك الدول بالمبادرة؟
إن استمرار استضافة دول كبرى مثل: الولايات المتحدة وإيطاليا وهولندا والبرازيل، لـ”اجتماعات العقبة” يؤكد أنها أصبحت شريكاً أمنياً إستراتيجياً للمجتمع الدولي، وذلك لاعتمادها لغة المصالح المشتركة وليس الخطاب السياسي المؤدلج، وتريكزها على الحلول الواقعية بعيداً عن الدبلوماسية المعقدة، كما تعالج جذور الإرهاب وليس نتائجه فقط، وتحترم السيادة الوطنية للدول، ولا تفرض أجندات خارجية، فضلا عن أنها منصة مرنة وغير بيروقراطية وسريعة التجاوب مع المتغيرات.
إن النجاح المتصاعد لـ”اجتماعات العقبة”، عزز الدور الإستراتيجي للأردن كدولة محور أمني دولي، فالأردن تمتلك خبرة عميقة في مواجهة التنظيمات الإرهابية منذ ثمانينات القرن الماضي، وصولاً إلى مواجهة تنظيمي “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين، كما أن موقع الأردن الجغرافي عند مفترق 3 أزمات إقليمية: سورية- العراق- فلسطين، جعله دولة خط تماس أمني في المنطقة.
ولهذا تبنى الأردن عبر المبادرة، عقيدة أمنية واقعية، تقوم على حماية الاستقرار الإقليمي كشرط للاستقرار الوطني، فمحاربة الإرهاب في نيجيريا أو البلقان أو ليبيا، جزء من حماية الأمن الأردني نفسه.
الإنجازات الجوهرية للمبادرة
استطاعت “اجتماعات العقبة” تكوين تحالف أمني غير رسمي، يضم أكثر من 60 دولة، ومنظمات دولية وإقليمية. وقد باتت هذه الشبكة قناة تواصل دائم بين أجهزة الأمن والدفاع والاستخبارات حول العالم. كما غيرت المبادرة معادلة المواجهة مع الإرهاب لتصبح استباقية وقائية بدلاً من الاقتصار على رد الفعل، وأدت هذه المقاربة لمنع هجمات إرهابية قبل وقوعها، عبر تبادل المعلومات ورفع كفاءة الأمن الحدودي.
كانت “اجتماعات العقبة” السباقة في التحذير من تمدد الإرهاب عبر الفضاء الإلكتروني، وطالبت منذ عام 2018 بوضع ضوابط للمحتوى المتطرف على “السوشال ميديا”، وقد تبنت دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة هذه الرؤية لاحقاً.
لم تكتف المبادرة بعقد الاجتماعات في عواصم آمنة، بل انتقلت إلى المناطق الساخنة، فاستضافت نيجيريا ورواندا اجتماعات خاصة بأمن الساحل الإفريقي، بينما ركزت اجتماعات البلقان وأوروبا الشرقية على منع تمدد خلايا “داعش” الإرهابي في القارة. كما عالجت المبادرة جذور التطرف لا مظاهره فقط، وركزت على تمكين الشباب وتقليص الهشاشة الاجتماعية ومحاربة البطالة في المجتمعات المعرضة للتجنيد الإرهابي، وهذا الربط بين الأمن والتنمية، جعلها مقاربة مختلفة عن أساليب التحالفات التقليدية.
تحديات تواجه المبادرة
وبرغم نجاحاتها، تصطدم المبادرة بعدة تحديات تتطلب معالجة متواصلة، منها تصاعد الإرهاب الهجين، واندماج الإرهاب مع الجريمة المنظمة والتهريب وتمويل المخدرات، وضعف التعاون الدولي في أقاليم خاصة كليبيا والساحل الإفريقي ومنطقة الساحل الشمالي الشرقي.
ومن التحديات أيضا؛ الإرهاب السيبراني، وقدرة الجماعات على التجنيد الرقمي والاختراق المالي، بالإضافة لأزمات النزوح واللاجئين، واستغلال التنظيمات لمخيمات اللجوء بنشر التطرف، وصعود التطرف اليميني، وأي تهديد جديد في أوروبا وأميركا ما يخلق “تطرفاً مضاداً”، كذلك تبرز تحديات غياب الإستراتيجية القانونية الدولية، بحيث لا يوجد حتى اليوم تعريف دولي موحد للإرهاب.
ومن آفاق تطوير المبادرة؛ وجود توجه لدراسة تحويل اجتماعات العقبة إلى مظلة تنسيقية مستقلة، تمتلك مركزاً دولياً للأبحاث والتدريب في الأردن، لتصبح مرجعاً عالمياً لمكافحة الإرهاب، وتعزيز الأمن السيبراني، بينما يتوقع بأن تركز الجولات المقبلة على شبكات التجنيد الإلكتروني وتحليل الذكاء الاصطناعي المستخدم في الدعاية المتطرفة، بخاصة بعد دخول التنظيمات الإرهابية إلى عالم التزييف العميق (Deepfake).
ومن المخطط  له توسيع المبادرة، لتشمل تعاوناً أعمق في مراقبة الحدود والطائرات المسيّرة واستخدام التحليل الاستخباري المشترك، بينما يتجه العمل على تعزيز برامج تحصين الشباب والفكر بدعم الإعلام الواعي والجامعي والريادة الاجتماعية، ويتوقع إشراك دول عربية جديدة في الإطار العملي للمبادرة، خصوصاً في شمال إفريقيا والقرن الإفريقي والخليج العربي، ما يجعلها جداراً عربياً دولياً في مواجهة الإرهاب.
ويمكن القول، إن مبادرة “اجتماعات العقبة” أصبحت رداً عملياً على فشل نظام الأمن الدولي التقليدي في التعامل مع الإرهاب،  فهي أداة أردنية المنشأ، لكنها عالمية التأثير، فرضت نفسها بالإنجاز لا بالشعارات، واستطاعت أن تجمع على طاولتها دولاً متخاصمة، لكنها متفقة على مواجهة عدو مشترك
فأثبتت اجتماعاتها خلال 10 أعوام تقريبا، بأنها ليست حدثاً بروتوكولياً أو نشاطاً دبلوماسياً موسمياً، بل مشروع أمني إستراتيجي عابر للحدود، فرض نفسه لاعباً رئيساً في هندسة التعاون الأمني الدولي ومواجهة التطرف والإرهاب.
نجحت المبادرة بسد واحدة من أخطر الثغرات في النظام الدولي، وهي غياب التنسيق العملي بين الدول في ظل تصاعد الإرهاب الهجين، وتحوّل التنظيمات المتطرفة لشبكات سرية لا مركزية، تستخدم التكنولوجيا وتتكيف مع الضربات الأمنية. وما ميّزها أنها خرجت من رحم الواقع؛ فقد ولدت في دولة تعرف جيداً كلفة الإرهاب وتداعيات الفوضى الإقليمية، لذلك، جاءت الرؤية الأردنية بقيادة جلالة الملك لتؤسس إطاراً عملياً يقوم على الوقاية الاستباقية والردع الذكي وتحصين المجتمعات ضد التطرف.
ولعل أهم ما حققته “اجتماعات العقبة”، أنها أعادت تعريف الأمن العالمي، باعتباره مسؤولية مشتركة، فمواجهة الإرهاب لا تعني الدفاع عن حدود دولة بعينها، بل حماية الإنسانية من فكر متوحش يتغذى على الأزمات والصراعات.
كما أن التحديات لا تزال كبيرة، أبرزها الإرهاب الإلكتروني، وضعف التنمية في مناطق النزاع، وصعود التطرف المضاد، وانتقال الإرهاب إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي. لكن المبادرة اليوم تمتلك ما لا تملكه كثير من المنتديات الدولية، الثقة والمرونة ومصادر التأثير.
وفي زمن تتحول فيه التهديدات الأمنية إلى أخطبوط دولي، ولّدت “اجتماعات العقبة” شبكة مضادة تستند إلى التعاون لا الصراع، وإلى تبادل المعرفة لا احتكارها، وإلى الفعل الاستباقي لا الانتظار.
وتعد اجتماعات العقبة صوت استقرار في عالم مضطرب، وهي قبل كل شيء رسالة أردنية للعالم أن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تُربح بالرصاص وحده، بل بفكر مستنير، وشراكات راسخة، وإرادة سياسية صلبة تضع أمن الإنسان فوق كل اعتبار.

 

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة