متحف “بيادرنا” في إربد.. جهد فردي يوثق التراث الأردني وينعش الذاكرة الوطنية-

إربد- في قرية مخربا غرب بلدة صما في لواء الطيبة بمحافظة إربد، تتنفس الجدران عبق التاريخ، وتروي الحجارة حكاية رجل نذر نفسه للإسهام في حماية الذاكرة الوطنية، ففي بيت عمره أكثر من 140 عاما، يحتفظ حمزة صالح عثمان العزام، المعروف بـ”أبو صالح”، بتراث أردني متكامل جمعه بجهده الذاتي عبر أكثر من خمسة عشر عاما، ليجعل منه متحفا فريدا باسم “بيادرنا للتراث الأردني”، ليكون شاهدا على حياة الأردنيين منذ العهد العثماني وحتى بدايات الألفية الجديدة.

Image3_10202520215843205391895.jpg

يقول العزام لـ”الغد” إنه شعر منذ سنوات شبابه الأولى، بأن مظاهر الحياة القديمة في الريف الأردني بدأت تختفي أمام تسارع الحداثة، وأن أدوات الأجداد ووسائلهم البسيطة في الزراعة والصناعة والتعليم تتآكل في غياب الوعي بقيمتها.
ويؤكد العزام أنه لم يتعامل مع الأمر كهاو لجمع الأشياء، بل كحارس لذاكرة وطنية يجب إنقاذها قبل أن تندثر، فبدأ رحلته من الأسواق الشعبية والقرى البعيدة، يجمع ما تبقى من مقتنيات الماضي، ليحفظها في بيت العائلة العريق الذي ورثه عن أجداده، ويحوله إلى متحف نابض بالحياة.
وتوزعت مقتنيات المتحف على غرف البيت الحجرية ذات الأقواس والسقوف الخشبية، وكل زاوية فيه تحكي قصة مختلفة من تاريخ الأردنيين. في إحداها أدوات الحراثة القديمة والمناجل والرحى الحجرية، وفي أخرى أدوات المطبخ النحاسية والمكواة التي تعمل بالفحم، وإلى جانبها خابية الماء وجرار الفخار، والمناخل وسلال القش وأحذية الفلاحين الجلدية.
كما يضم المتحف وثائق رسمية تعود إلى بدايات تأسيس الدولة، وصورا قديمة لرجال التعليم والجنود والمزارعين، وقطعا نادرة من الأزياء الشعبية والعملات والطوابع البريدية.
تصنيف المقتنيات بدقة
عمل العزام على تصنيف المقتنيات بعناية ودقة، لتشكل بانوراما متكاملة توثق مسيرة الإنسان الأردني في مجالات الزراعة والتعليم والحرف اليدوية والصناعة والتجارة. ويضم المتحف أقساما خاصة للأدوات المنزلية والملابس التراثية والقطع الزراعية والوثائق التاريخية، لتقدم صورة متكاملة عن حياة الأردنيين قبل عقود طويلة، وتبرز قيم الكفاح والبساطة التي تميزت بها الأجيال السابقة.
رؤية العزام لهذا المشروع تجاوزت حدود الهواية الفردية، فهو يعتبر المتحف رسالة وطنية قبل أن يكون مشروعا شخصيا. ويرى أن الحفاظ على التراث مسؤولية جماعية، وأن ما يفعله هو مساهمة متواضعة في حماية الهوية الأردنية من النسيان.
العزام يشير إلى أنه لم ينتظر دعما أو تمويلا من أحد، بل اعتمد على جهده وماله الخاص، فقام بترميم البيت وصيانته وتهيئته لاستقبال الزوار، مستعينا بمساعدة محدودة من أبناء المنطقة الذين آمنوا بالفكرة واعتبروها مصدر فخر محلي.
ورغم غياب الدعم الرسمي، يقول العزام إن متحف “بيادرنا” استطاع أن يفرض نفسه كمعلم ثقافي وسياحي في شمال الأردن، فقد زاره العديد من المهتمين بالتراث والإعلاميين، واستقبل وفودا مدرسية وسياحية من مختلف المحافظات، حيث أصبح المتحف وجهة تعليمية للأطفال والطلاب الذين يجدون فيه فرصة للتعرف على أدوات لم تعد موجودة في حياتهم اليومية. وغالبا ما يغادر الزوار المكان بانطباع قوي عن الجهد المبذول في جمع هذه الكنوز الوطنية والحفاظ عليها في بيئة بسيطة تعبر عن روح الريف الأردني.
وبحسب العزام، فإنه يعتمد في إدارة المتحف على أسلوب مباشر في التواصل مع الزوار، فهو يشرح للطلبة والسياح وظائف الأدوات القديمة ومكانتها في حياة الناس، ويقارن بين الماضي والحاضر بطريقة تجعلهم يدركون حجم التحول الاجتماعي والثقافي الذي مر به الأردن، مضيفا أن هذا التفاعل الإنساني جعل المتحف أكثر من مجرد مكان للعرض، بل مساحة حية للتعلم والتأمل واستحضار قيم الجد والاجتهاد التي قامت عليها حياة الأردنيين الأوائل.
واختار العزام اسم “بيادرنا” ليعكس روح المشروع، فالبيادر في الثقافة الأردنية رمز للعمل الجماعي والحصاد والفرح، وهي تجمع الناس على التعاون والمشاركة، فالمتحف بالنسبة له يشبه البيدر، إذ يجمع ما تبقى من ثمار الماضي ليقدمها للأجيال المقبلة، في بادرة وفاء لمن تعبوا وسقوا الأرض بعرقهم.
المبنى بحاجة إلى ترميم
ورغم أن المتحف حظي بتغطية إعلامية من قنوات تلفزيونية وإذاعات ومنصات إلكترونية، إلا أن العزام يرى أن الاهتمام الإعلامي لا يكفي لاستمرارية المشروع. فالمبنى القديم بحاجة إلى ترميم متكرر للحفاظ على سلامته، كما أن المقتنيات تحتاج إلى تجهيزات عرض حديثة تحميها من التلف والرطوبة. لذلك يؤكد أن المتحف يحتاج إلى دعم مادي ومعنوي من الجهات الرسمية، وعلى رأسها وزارتا الثقافة والسياحة، لإدامة العمل وتطويره ليكون جزءا من الخريطة السياحية والثقافية في المملكة.
ويمتاز موقع المتحف بإطلالة خلابة على فلسطين وسورية، ما يمنحه بعدا وطنيا وثقافيا خاصا، ويؤهله ليكون محطة رئيسية في مسار السياحة التراثية في شمال الأردن. فإلى جانب قيمته التاريخية، يمتلك المكان مقومات الجذب الطبيعي والجغرافي، إذ يقع على تلة مرتفعة تحيط بها الحقول الخضراء، ما يضيف إلى تجربة الزائر بعدا بصريا وإنسانيا يربط بين جمال المكان وعمق المعنى.
العزام يفتح أبواب المتحف أمام الجميع مجانا، من دون فرض أي رسوم دخول، إيمانا منه بأن التراث لا يشترى ولا يباع، قائلا إنه يعتبر أن المكافأة الحقيقية هي انبهار الزوار حين يكتشفون كيف عاش الأردنيون ببساطة وعزيمة، وكيف استطاعوا بناء وطن حديث من دون أن يتنكروا لجذورهم، ويرى في كل زيارة تذكرة حياة جديدة للتراث، وفي كل طفل ينبهر بالمقتنيات مشروع حافظ جديد لذاكرة الوطن.
ويؤمن العزام بأن الحفاظ على التراث ليس عملا ماضويا، بل استثمار في المستقبل، لأن الأجيال التي تعرف تاريخها قادرة على فهم حاضرها وبناء مستقبلها بثقة، ومن هذا الإيمان يستمد طاقته للاستمرار رغم التحديات، واضعا هدفه الأكبر في جعل متحف “بيادرنا” مؤسسة ثقافية مستدامة تسهم في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء.
إدراجه بالمسار السياحي والثقافي
بدوره، قال مصدر في وزارة السياحة إن الوزارة تقدر الجهود الفردية والمبادرات الشعبية الهادفة إلى حفظ التراث الأردني وإبرازه، مؤكدة أن هذه المبادرات تعبر عن وعي وطني عميق بأهمية الهوية الثقافية وتسهم في توثيق الذاكرة الشعبية.
وأضاف أنه سيتم دراسة إدراجه ضمن قائمة المواقع التراثية المقترح إدراجها في المسار السياحي والثقافي لمحافظة إربد، خصوصا أنه يجمع بين القيمة التاريخية للمقتنيات والطابع المعماري الأصيل للبيت القديم الذي يحتضنه.
وأكد أن الحكومة ماضية في تعزيز الشراكة مع المجتمع المحلي والمؤسسات الثقافية والأفراد المهتمين بالتراث، مشددا على أن التراث الأردني مسؤولية مشتركة تتطلب تعاون الجميع، في حين أشار إلى أن الوزارة ستواصل متابعة أوضاع المتاحف الخاصة والعمل على توفير أشكال الدعم الفني والإرشادي للحفاظ على مقتنياتها وصونها من التلف.

أحمد التميمي/ الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة