“إجازة ممارسة مهنة التعليم”.. إصلاح تربوي يتعدى حدود الوظيفة

في خطوة تعدّ تحولاً نوعياً في بنية النظام التربوي، أقرّ مجلس الوزراء أمس الأسباب الموجبة لمشروع نظام إجازة ممارسة مهنة التعليم لسنة 2025، تمهيداً لإرساله إلى ديوان التشريع والرأي لاستكمال إجراءات إصداره.
ويأتي هذا النظام ضمن مسار إصلاحي أوسع يهدف إلى إعادة ضبط مهنة التعليم، وتحويلها إلى مهنة قائمة على التأهيل والكفاءة، لا مجرد وظيفة يمكن شغلها بمجرد الحصول على شهادة جامعية.
فالمعلم، وفق هذا التوجه الجديد، لن يكون مجرد ناقل للمعلومة، بل متخصصاً يمتلك أدوات معرفية وتربوية ومهارات تفاعلية تضمن جودة العملية التعليمية في مجملها.
وقديما، لم تكن مهنة التعليم في الأردن خاضعة لإطار قانوني موحد يحدد شروط الممارسة ومعايير الكفاءة المهنية، وكان هناك تفاوت واضح بين أسس التعيين في القطاعين العام والخاص، إضافة إلى اختلافات في مستويات التدريب والتأهيل.
ومشروع النظام الجديد يسعى إلى معالجة هذا الخلل من جذوره، من خلال إقرار إجازة رسمية تصدر عن وزارة التربية والتعليم، تشكل شرطاً أساسياً لممارسة المهنة.
ومن خلال هذا الإجراء، تسعى الحكومة إلى إرساء ثقافة مهنية جديدة تقوم على الاعتماد على الكفاءة قبل التوظيف، وتحقيق مبدأ العدالة بين جميع العاملين في القطاع التعليمي، سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة أو تلك التابعة للقوات المسلحة أو وكالة الأونروا.
ويمنح النظام المقترح المعلمين العاملين حالياً في المؤسسات التعليمية إجازة ممارسة المهنة حكماً، دون الحاجة إلى أي إجراء إضافي، على أن يبدأ تطبيق النظام على المعلمين الجدد اعتباراً من العام الدراسي 2027–2028.
ويعكس هذا التدرج الزمني إدراك الحكومة لحساسية المرحلة الانتقالية، إذ يتطلب النظام بنية إدارية قادرة على إجراء الاختبارات والإشراف على عمليات التدريب والتقييم والتجديد، فالمسألة لا تتعلق بإصدار رخصة شكلية، بل ببناء منظومة متكاملة لقياس الكفاءة وضمان الجودة التعليمية.
جوهر النظام الجديد
ويقوم جوهر النظام الجديد على فكرة أن التعليم مهنة تحتاج إلى إعداد مستمر وتقييم دوري، شأنها شأن المهن الأخرى التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، كالقانون والطب والهندسة.
فالمعلم اليوم مطالب بامتلاك مهارات تتجاوز المعرفة الأكاديمية إلى الإلمام بطرق التدريس الحديثة، وإدارة الصفوف، والتعامل مع التكنولوجيا التعليمية، وتعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الطلبة.
لذلك، فإن الحصول على الإجازة لن يكون نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق لمسار مهني يتطلب تطويراً ذاتياً وتدريباً مستمراً، حيث سيُعاد تجديد الإجازة وفق آلية محددة تراعي المشاركة في برامج التنمية المهنية والتقويم المستمر للأداء.
ومن المتوقع أن يسهم النظام في رفع كفاءة العملية التعليمية عبر تحسين نوعية المخرجات البشرية، فالمعلم الذي يخضع لاختبار تأهيلي قبل دخول المهنة سيكون أكثر قدرة على الوعي بأدواره التربوية والتعليمية، وأكثر التزاماً بمعايير الأداء المهني.
كما ستوفر وزارة التربية والتعليم من خلال النظام قاعدة بيانات وطنية شاملة للمعلمين، تتيح لها التخطيط السليم لتوزيع الكوادر وفق التخصصات والاحتياجات الفعلية.
ويعزز هذا التوجه مبدأ الحاكمية المؤسسية في إدارة التعليم، ويضع حداً للعشوائية التي كانت تصاحب عمليات التعيين في بعض المؤسسات الخاصة.
لكن رغم إيجابيات النظام، فإن تطبيقه العملي قد يواجه تحديات حقيقية، أولها يتعلق بآليات الاختبارات ومعاييرها، إذ يجب أن تكون دقيقة وعادلة وتعكس القدرات التربوية لا الحفظ الأكاديمي فقط.
كما أن التحدي المالي والإداري في تجهيز بنية امتحانية وتدريبية متكاملة قد يشكل عبئاً على الوزارة في بدايات التطبيق.
وهناك أيضاً البعد الاجتماعي والنفسي، فبعض الخريجين قد يرون في النظام عقبة إضافية أمام دخول سوق العمل، خصوصاً في ظل ارتفاع نسب البطالة بين حملة الشهادات الجامعية في التخصصات التربوية.
من هنا، تصبح مسؤولية الحكومة مضاعفة في توضيح أهداف النظام للرأي العام، وإطلاق برامج تأهيل مجانية أو مدعومة تهيئ المعلمين الجدد لاجتياز الاختبارات المطلوبة دون أن يتحملوا أعباء مالية إضافية.
في المقابل، يرى كثير من المختصين أن النظام يمثل نقلة نوعية طال انتظارها، فمهنة التعليم في الأردن لطالما عانت من تراجع مكانتها الاجتماعية بسبب غياب التشريعات التي تحميها وتمنحها صفة المهنة المعترف بها قانوناً.
واليوم، مع صدور هذا النظام، يصبح المعلم أقرب إلى نموذج المهني المرخص الذي يخضع لمعايير أداء واضحة ومسارات تطوير محددة، وهذا التحول ينعكس إيجاباً على صورة المعلم أمام المجتمع، ويمنحه شعوراً بالانتماء إلى مهنة ذات قواعد ومعايير واضحة، ما يعزز الدافعية لديه ويزيد من التزامه بالرسالة التربوية.
توحيد المرجعيات
من الناحية القانونية، يشكل النظام خطوة مهمة في توحيد المرجعيات التي تحكم قطاع التعليم، فبدلاً من تعدد الأنظمة واللوائح بين المؤسسات التعليمية المختلفة، سيصبح هناك إطار واحد يحدد شروط منح الإجازة وتجديدها ومتابعة التطور المهني.
كما أن تشكيل لجنة مختصة تمنح الإجازات وتضع السياسات والمعايير يضمن استقلالية القرار ويقلل من احتمالات التباين في التطبيق.
ومع الوقت، يمكن أن يتحول هذا النظام إلى قاعدة لتطوير التشريعات المتعلقة بالمسار المهني للمعلم، بحيث تُربط الترقيات مستقبلاً بدرجات الإجازة ومستويات الكفاءة، وليس فقط بعدد سنوات الخدمة.
من جهة أخرى، يرتبط هذا النظام برؤية أوسع تتبناها الدولة الأردنية في السنوات الأخيرة، وهي ربط تطوير التعليم بأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فالتعليم هو القاعدة التي تُبنى عليها الكفاءات البشرية القادرة على قيادة الاقتصاد الوطني في المستقبل.
وعندما يتم ضبط جودة التعليم من خلال رفع كفاءة المعلّم، فإن ذلك ينعكس مباشرة على نوعية مخرجات التعليم العالي وسوق العمل؛ لذا فإن مشروع نظام الإجازة لا يمكن النظر إليه بمعزل عن رؤية التحديث الاقتصادي والإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، اللتين تشددان على أهمية إعداد المعلّم بوصفه حجر الأساس في أي إصلاح تربوي حقيقي.
ورغم أن بعض الأصوات قد ترى في النظام خطوة بيروقراطية جديدة، إلا أن جوهره يكمن في إرساء ثقافة المساءلة المهنية.
فالمعلم الذي يُمنح الإجازة بناءً على كفاءته، ثم يُطالب بتجديدها عبر المشاركة في برامج تدريبية، سيظل على تماس دائم مع متطلبات التطوير، ولن يكون التعليم بالنسبة له نشاطاً روتينياً، بل مساراً مهنياً ديناميكياً.
وفي المقابل، يجب أن تُقابل الوزارة هذا الالتزام بتوفير فرص تدريب نوعية ودعم حقيقي للمعلمين في مختلف المحافظات، حتى لا يتحول النظام إلى عبء إداري بدلاً من كونه وسيلة تطوير.
ويمكن القول إن مشروع نظام إجازة ممارسة مهنة التعليم يمثل تحولاً تشريعياً وتنظيمياً مهماً، يهدف إلى الارتقاء بجودة التعليم وضمان كفاءة المعلّمين وتحقيق العدالة في معايير التعيين والتطوير المهني.
غير أن نجاحه سيعتمد على طريقة تطبيقه ومدى التوازن بين متطلبات الجودة وواقع الميدان التربوي، فإذا تمكنت الحكومة من تنفيذ النظام بروح تشاركية، تراعي مصالح المعلمين وتضع مصلحة الطلبة في المقام الأول، فإن الأردن سيكون قد خطا خطوة جادة نحو بناء منظومة تعليمية عصرية تليق بتطلعاته الوطنية.
أما إذا تحول النظام إلى مجرد إجراء شكلي أو أداة بيروقراطية، فسيفقد جوهره الإصلاحي ويضيف عبئاً جديداً على المعلّم بدل أن يكون وسيلة لتمكينه.
مفترق طرق
ويقف النظام الجديد عند مفترق طرق بين أن يكون أداة حقيقية لتجديد التعليم أو أن يتحول إلى تجربة أخرى تضاف إلى قائمة التشريعات التي وُضعت بنوايا تطويرية وانتهت دون أثر فعلي.
لكن المؤكد أن الاعتراف بمهنة التعليم كمهنة مرخصة ومنظمة هو خطوة طال انتظارها، ونجاحها سيعتمد على الإرادة السياسية والتنفيذية في جعلها مدخلاً لإصلاح شامل لا مجرد تعديل قانوني.
وكانت إدارة الإشراف والتدريب التربوي أعدت ميثاق مهنة التعليم والدليل التنفيذي لمنهجية التقييم وأدواته للمعلمين والقادة التربويين، وتهدف هذه التجربة إلى إضفاء الطابع المنهي للقوى العاملة في قطاع التعليم في المملكة.
وأكدت الخطة الإستراتيجية لوزارة التربية والتعليم 2018 – 2020 على ما تم رسمه في بنود الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية.
ومن أهم تلك المضامين، التنمية المهنية للمعلمين والتي في ضوئها يتم تقييم المعلم بشكل منتظم وفقًا للمعايير الوطنية للمعلم التي تم تطويرها من قبل وزارة التربية والتعليم، بشكل يقود إلى الحصول على إجازة ممارسة مهنة التعليم، وتقدم له فرصا للتقدم في المسار الوظيفي.
وتهدف إلى أن يتم بحلول العام إجازة جميع المعلمين والقادة التربويين في القطاعين العام والخاص، وتقوم الوزارة بالعمل على إصدار نظام مزاولة مهنة للتعليم، منذ العام 2020 حتى العام 2025 وفقا للميثاق، غير أنه تأجل العمل به وفقا للنظام إلى العام 2027.
ففي عام 2017، تمت الموافقة على نظام يحمل عنوان “نظام مزاولة المهن التعليمية وترخيص المعلمين والقيادات التربوية” ويختلف عن النظام الجديد.

