الأردنيون وصلاح الدين الأيوبي: العشائر التي شاركت في تحرير القدس من الصليبيين

د .سمير عبدالرحيم الزغول
=
بقلم: الدكتور سمير عبد الرحيم الزغول
🌅 مقدمة: جذور العز والفداء
منذ فجر التاريخ، كانت أرض الأردن ممرًّا للجيوش، ومعبرًا للحضارات، ومهدًا للبطولة والعروبة. وفي لحظة مفصلية من تاريخ الأمة، عندما دُنِّست القدس بأقدام الصليبيين عام 1099م، وقف صلاح الدين الأيوبي يستنفر طاقات الأمة الإسلامية من مصر إلى الشام، فلبّت نداءه قبائل وعشائر العرب، وكان للأردنيين نصيبٌ خالد في تلك الملحمة الكبرى التي انتهت بتحرير القدس عام 1187م.
لم تكن المشاركة الأردنية في معارك صلاح الدين حدثًا عابرًا، بل كانت تعبيرًا عن روح الجوار المقدس بين الكرك والقدس، وعن عمق الإيمان العربي بأن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الذات والهوية والمقدّس.
🏔️ الأردن في زمن الصليبيين وصلاح الدين
في القرن الثاني عشر الميلادي، كانت مناطق الكرك، الشوبك، البلقاء، عجلون، والطفيلة تشكّل قلب الأردن التاريخي. وقد احتلها الصليبيون ضمن ما عرف بـ”مملكة بيت المقدس اللاتينية”، وأقاموا فيها قلاعًا حصينة لقطع الطريق بين الشام ومصر.
غير أن هذه الأرض لم تهدأ تحت الاحتلال. فقد حافظ أبناؤها على ولائهم للعروبة والإسلام، وكانوا جزءًا من حركة المقاومة التي وحّدها صلاح الدين تحت راية واحدة، حتى أصبحت قلاع الكرك والشوبك مفاتيح التحرير.
⚔️ العشائر الأردنية في صفوف جيش صلاح الدين
1. قبائل الكرك والبلقاء: درع الجنوب ومفتاح القدس
من الكرك، حيث الشموخ والصلابة، خرج فرسان بنو حميدة وبنو عطية والعبيـديون والمجالي لاحقًا، يقاتلون مع جيش صلاح الدين ضد حصون الصليبيين في الكرك والشوبك. كانت تلك القبائل تعرف دروب الجبال والوديان، وتؤمّن الطرق للقوات الأيوبية القادمة من دمشق ومصر.
ويُروى أن رجال الكرك حاصروا مع جيوش صلاح الدين قلعة الكرك حين كانت تحت حكم “ريجنالد دي شاتيون”، العدو الأشهر للمسلمين، وأنهم شاركوا في قطع خطوط إمداده حتى أسره صلاح الدين بنفسه في معركة حطين.
أما قبيلة العدوان، التي استقرّت لاحقًا في البلقاء، فكانت من بطون قبائل الشام التي ساهمت في الإمداد والدعم اللوجستي لقوات صلاح الدين بين الكرك ودمشق، وهو ما حفظته الذاكرة الشعبية الأردنية جيلاً بعد جيل.
2. قبائل الشمال (عجلون وإربد): أسود الغور وحماة الطرق
في شمال الأردن، لبّت قبائل بنو كنانة وبنو جهم وبنو مهدي نداء الجهاد، وانضمت إلى الجيوش الأيوبية بقيادة القائد المجاهد عز الدين بن عبد السلام الجهني. وقد كان لمقاتليهم دور حاسم في معركة حطين، حيث عرفوا تضاريس وادي الأردن وأشرفوا على تطويق الجيش الصليبي الفار من الغرب إلى الشرق.
لقد كانت عجلون حصنًا طبيعيًا وموقعًا استراتيجيًا، فأسس فيها الأيوبيون لاحقًا قلعة عجلون (قلعة الربض) عام 1184م لتكون مركزًا لحماية الطرق بين دمشق والقدس، وليستمر الإرث العسكري الأردني في خدمة الهدف الأسمى: تحرير الأرض المقدسة.
3. قبائل الجنوب (الطفيلة ومعان ووادي موسى): حماة الصحراء وخطوط الإمداد
من الجنوب، حيث الصحراء الممتدة نحو الحجاز، جاءت قبائل الحويطات وبني عطية وبني عقبة لتؤمّن طرق الجيش الأيوبي بين مصر والكرك عبر وادي عربة.
كانت مهمتهم حماية القوافل، ونقل الإمدادات، وإرشاد الجيوش عبر الصحراء الوعرة، وهي مهمة لا تقل بطولة عن القتال في الميدان.
أما أهالي وادي موسى (أحفاد الأنباط العرب)، فقد قدّموا الدعم اللوجستي للجيش الأيوبي، وساعدوا في ربط قلاع الجنوب بالخطوط الخلفية نحو العقبة والبحر الأحمر.
هكذا تجلت روح التضامن العربي الإسلامي، حين امتزجت بطولات العشائر الأردنية بالدماء الأيوبية الزكية على طريق القدس.
🕌 من الكرك إلى القدس: الطريق إلى النصر
لم يكن تحرير القدس حدثًا مفاجئًا، بل ثمرة سنوات من الصبر والإعداد. بعد أن أحكم صلاح الدين السيطرة على الكرك والشوبك بمعونة أبناء المنطقة، توجّه شمالاً نحو سهل حطين عام 1187م، وهناك سطّر التاريخ واحدة من أعظم الانتصارات الإسلامية.
شارك فرسان من الكرك والبلقاء وعجلون في تلك المعركة الخالدة التي مهّدت الطريق لفتح القدس في نفس العام. وعندما دخل صلاح الدين المدينة المقدسة في 27 رجب 583هـ، كان صدى تكبيرات النصر يصل من جبال مؤتة وعجلون والطفيلة، حيث شعر الأردنيون أن النصر نصرهم، وأن القدس أمانة الأمة كلها.
✝️ المسيحيون العرب الأردنيون: شركاء في البطولة والوطنية
لم يقتصر نبل البطولة على المسلمين وحدهم، بل شارك المسيحيون العرب الأردنيون في صفوف جيش صلاح الدين وفي حماية الطرق والقوافل المؤدية إلى القدس. فقد ارتبطت القبائل والمجتمعات المسيحية في مناطق البلقاء والكرك وعجلون بأبناء جلدتهم المسلمين في الدفاع عن الأرض المقدسة ضد الصليبيين، متحدين تحت راية الحق والوطن.
تؤكد المصادر التاريخية والموروث الشعبي أن هؤلاء الأبطال، المسلمون والمسيحيون، ساهموا في تأمين الإمدادات، والمشاركة في الحصار، وتوجيه القوات الأيوبية عبر التضاريس الصعبة. وهكذا أصبح تحرير القدس ملحمة وطنية جامعة، تعكس روح الأردن الواحد، العربي الموحد، والمقدس للجميع.
👑 الهاشميون وحمل الأمانة: رعاية القدس وحماية المقدسات
منذ أن حرّر صلاح الدين الأيوبي القدس ورفع الأذان في ساحاتها، بقيت المدينة المقدسة أمانة في عنق الأمة. وبعد قرون من التحديات، تسلّمت القيادة الهاشمية في الأردن تلك الأمانة التاريخية، فكانت خير وارثٍ لرسالة صلاح الدين، وخيرَ حارسٍ للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
بدأت الرعاية الهاشمية رسمياً مع الشريف الحسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، الذي أعلن أن القدس جزء من قضيته المركزية. وتواصل العهد مع الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين، الذي امتزج دمه الطاهر بتراب القدس عام 1951 وهو يصلي في المسجد الأقصى.
ثم تعززت هذه الوصاية في عهد الملك الحسين بن طلال، الذي أعاد إعمار قبة الصخرة والمسجد الأقصى بموارد أردنية خالصة، وأطلق مشاريع ترميمٍ متواصلة حافظت على هوية المدينة العربية الإسلامية.
واليوم، يمضي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين على ذات النهج، حاملاً لواء الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، ومدافعًا عنها في كل المحافل الدولية.
ففي كل موقف من مواقفه، يصدح صوته تأكيدًا أن:
القدس خط أحمر، وهي أمانة الهاشميين منذ صلاح الدين حتى اليوم.
بهذه الرعاية الممتدة، تتجدد رسالة الأردن في التاريخ:
أن الأردنيين – بعشائرهم ومسيحييهم وقيادتهم – ظلوا على العهد منذ معارك صلاح الدين وحتى الوصاية الهاشمية المعاصرة، حراسًا للقدس، وأوفياء لعروبتها ومقدساتها.
📜 خاتمة: ذاكرة الوطن المجدّد
ليس غريبًا أن تحمل أسماء المدن الأردنية عبق التاريخ: الكرك، مؤتة، عجلون، معان، الطفيلة — فكلها محطات في رحلة البطولة الممتدة من الأيوبيين حتى يومنا هذا.
ولعل أجمل ما يُقال اليوم أن العشائر الأردنية والمسيحيون العرب الذين قاتلوا مع صلاح الدين بالأمس، ما زال أحفادهم يحملون ذات الإيمان والعهد:
“الأردن خط الدفاع الأول عن القدس، والقدس قلب الأردن النابض.”

