تركيا تقتحم المحظور: نتنياهو من زعيم محصّن إلى مطلوب للعدالة !


مهدي مبارك عبدالله

في خطوة قضائية قلبت المعادلات وضمن ضربة قانونية غير مسبوقة أصدرت النيابة العامة التركية في إسطنبول مؤخرا مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير وقائد سلاح البحرية ديفيد ساعر سلامة و36 من قادة الجيش والوزراء متهمة إياهم بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة حيث يأتي هذا القرار بعد عام من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو لكنه يكتسب أهمية خاصة بسبب الطابع الوطني الذي يمنح تركيا صلاحية مباشرة لتفعيل الولاية القضائية العالمية رغم الضغوط السياسية الغربية التي تتعرض لها ومحاولات شيطنة العملية القانونية كما يكشف توقيت المذكرة التركية عن إرادة انقرة الحقيقية لكسر الصمت الدولي وتحويل ملفات الجرائم الإسرائيلية من مجرد بيانات إدانة وشعارات إعلامية إلى أدوات قانونية قابلة للتنفيذ

القرار التركي الجريئ وجه صفعة تاريخية لنتنياهو وكسر واحداً من أكثر الخطوط حساسية في الإقليم وان ملاحقة رئيس حكومة إسرائيل بجرائم حرب جعلت المشهد ينتقل من الإدانة إلى المحاسبة ومن الغضب إلى الفعل وفق رسالة حادة تقول للعالم إن العدالة حين تتحرك وان الحساب سيبقى مفتوح وأنقرة وضعت نتنياهو في الزاوية وتحت سيف القانون بشكل احرج الحلفاء وهز إسرائيل من الداخل بعدما داست أنقرة على خطوط تل أبيب الحمراء ومزّقت الأسطورة واسقطت هالة الحصانة بكل شراسة وقوة ليصبح نتنياهو من جديد بين مطرقة القضاء وغضب العالم

دلالات توقيت القرار التركي هادفة وواضحة حيث تعكس تراكم الأدلة الميدانية على جرائم الاحتلال منذ أكتوبر 2023 بالتزامن مع تصاعد الضغط الشعبي والسياسي داخل تركيا لإظهار موقف فعال تجاه العدالة والإنسانية كما أن القرار اثبت سياسة تركيا المستقلة في مواجهة ازدواجية المعايير الدولية التي تفرضها بعض القوى الغربية حين لم تتخذ المحاكم الدولية اي إجراءات فعالة تجاه الجرائم الإسرائيلية المرتكبة يوميا رغم الأدلة الواضحة جاءت المذكرة التركية بهذه الطريقة لتشكل سابقة قوية وتفتح الباب أمام دول أخرى لاعتماد مفهوم الولاية القضائية العالمية مما يزيد من احتمالية توقيف نتنياهو أو أي من قادته عند سفرهم إلى دول تحترم التزاماتها القانونية

من الجانب الدولي يتوقع أن يواجه القرار التركي تحديات ومعارضات سياسية ودبلوماسية خاصة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لكنها باي حال تعتبر خطوة جادة سوف تضغط اكثر على النظام الدولي لتعزيز مصداقية القانون الدولي ووقف الإفلات من العقاب على الصعيد الداخلي الإسرائيلي ومع ملفات الفساد والجرائم الإنسانية التي تلاحق نتنياهو منذ سنوات ستزيد المذكرة التركية من الضغوط القانونية والسياسية عليه لتصبح العدالة في الداخل والخارج مترابطة ومكملة لبعضها في الادانة والتطبيق

التحقيقات القانونية التي اجراها الادعاء العام التركي استندت إلى وقائع محددة ومثبتة من بينها استهداف مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني وتدمير المستشفيات والمدارس والمناطق السكنية وهو ما أسفر عن سقوط عشرات آلاف القتلى والجرحى معظمهم من النساء والأطفال كما تم توثيق الاعتداءات البحرية الإسرائيلية على أسطول الصمود العالمي وهو ما يربط القادة الإسرائيليين مباشرة بالقرارات العسكرية والسياسات الممنهجة التي أفضت إلى هذه الجرائم وقد ورد في المذكرة وصف دقيق للجرائم التي ارتكبها الجيش الاسرائيل بوحشية منظمة منها على سبيل المثال مقتل 500 انسان في قصف المستشفى المعمداني والاستهداف الممنهج للمستشفيات وتدمير معداتها وقتل الطفلة هند رجب البالغة ست سنوات بتاريخ 29 يناير/ كانون الثاني 2024 وفرض الحصار على قطاع غزة ومنع دخول المساعدات الإنسانية وهذه الاتهامات سيوفر أساسًا قانونيًا راسخًا للملاحقة الدولية يضع تركيا في موقع قيادي لإعادة الاعتبار للقانون الدولي المهمش

المذكرة التركية سوف تزيد من العزلة المزدوجة السياسية والقانونية التي تعاني منها إسرائيل في مواجهة العالم وقد يؤثر على علاقاتها مع بعض الدول الأوروبية التي بدأت فعلا بمراجعة مواقفها تجاه تل أبيب وعلى حلفاء الولايات المتحدة الذين قد يجدون أنفسهم أمام ضغط شعبي وقضائي لتفعيل العدالة قانونيًا المساهمة في تفعيل المذكرة التركية التي تعزز من احتمالية القبض على نتنياهو عند سفره لأي دولة ملتزمة بواجباتها القانونية الدولية وهو ما يمثل تحول نوعي في القدرة على كسر حصانة السياسيين المتورطين في جرائم الحرب والتي استمرت لعقود طويلة

الملاحظ أيضا ان المذكرة التركية تأتي في إطار أخلاقي وإنساني يعكس اهتمام تركيا بحق الضحايا الفلسطينيين ورفضها للصمت الدولي وهي بهذه الخطوة تبعث رسالة قوية إلى المجتمع الدولي بأن الدماء التي أريقت في غزة لن تبقى بلا ثمن وأن المؤسسات القانونية التركية قادرة وتستطيع اتخاذ خطوات جريئة حين تتباطأ أو تتردد المحاكم الدولية في ذلك كما أن اهمية المذكرة انها تعزز فكرة أن العدالة التي لم تعد حكرًا على الغرب وأن الدول المستقلة قانونيًا وأخلاقيًا يمكنها أن تتصرف بثقة واستقلالية لحماية حقوق الضحايا في مختلف مناطق العالم

واقعيا التحرك التركي اظهر أن الدول القادرة على التحرك القانوني المستقل تستطيع تحدي منظومة الحصانة المصطنعة التي طالما وفرت غطاء للمجرمين من السياسيين والعسكريين على حد سواء وهذا التحرك التركي قد يشكل نموذجًا يحتذى به في دول أخرى في العالم لفرض احترام القانون الدولي وتفعيل الولاية القضائية العالمية ضد المسؤولين عن الجرائم الكبرى كما يبرز أن العدالة ليست رهينة الانتقائية السياسية والخيارات النخبوية بل يمكن أن تصبح أداة فعالة لتحقيق الردع وحماية الإنسانية بشكل عام

الخطوة القضائية التركية عكست أيضًا امكانية تصعيب الإفلات من المسؤولية مهما طال الزمن أو تعددت المنافذ السياسية والدبلوماسية إذ أن تراكم الأدلة وتحرك القضاء الوطني يمكن أن أن يحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع وهو ما يضع أي قائد متورط في جرائم حرب أمام معادلة حسابية جديدة بين استمرار السياسات العدوانية وبين تحمل العواقب القانونية مع التأكيد على أن القانون الدولي يجب ان لا يبقى مجرد حبرًا على ورق وأن الجرائم ضد الإنسانية لابد ان يلاحق مرتكبيها في أي مكان وزمان مهما حاولوا الاختباء وراء الحصانات أو مراكز النفوذ والدعم السياسي

حركة المقاومة الإسلامية حماس بدورها اشادت بقرارات النيابة العامة في إسطنبول واعتبرتها انعكاس صادق لموقف الشعب التركي وقيادته المناصر للعدالة والحقوق الإنسانية وصورة حية عن مستوى التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة مستمرة وحصار وتجويع متعمد على يد قادة الاحتلال وفي ذات السياق دعت دول العالم وهيئاتها القضائية إلى إصدار مذكّرات قانونية مماثلة لملاحقة قادة الاحتلال الصهيوني الإرهابي في كل مكان والمساعدة في اقتيادهم إلى المحاكم ومحاسبتهم على جرائمهم ضد الإنسانية

في المقابل نددت إسرائيل كعادتها بما عدته حيلة دعائية حيث قال وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر إن إسرائيل ترفض بشدة وازدراء أحدث حيلة دعائية للطاغية والمجرم أردوغان كما اتهم القضاء التركي بأنه أداة سياسية متشددة تعمل في الداخل لإسكات الخصوم السياسيين واعتقال الصحفيين والمعلمين والقضاة ورؤساء البلديات وهذه المذكرة بكل تفاصيلها تعتبر واحدة من الاسباب التي جعل تل ابيب ترفض اي وجود تركيا في قطاع غزة بشكل مباشر أو غير مباشر

إصدار المذكرة التركية مثل لحظة فارقة في مسار العدالة الدولية حيث القواعد القانونية واضحة بما تؤكده أنه لا حصانة مطلقة لأي مجرم مهما طال الزمن وان العدالة التركية اطلقت شرارة الامل لإعادة الاعتبار للقانون الدولي والضمير الإنساني وأن الجرائم ضد الإنسانية وان ممارسة جرائم الإبادة الجماعية لن تبقى في غيابات الزمن تتزايد بلا ثمن حيث يدعو هذا القرار جميع دول العالم أجمع إلى الاتحاد والتعاون لتفعيل المذكرات الدولية الصادرة بحق الجناة المتوحشين وفي مقدمتهم نتن ياهو وزمرته الاجرامية والعمل المشترك على تحقيق العدالة بما يضمن احترام القانون الدولي وإنصاف الضحايا ووضع حدًا لمرحلة الإفلات من العقاب التي طال أمدها وامام كل ذلك يجب أن لا يهدأ بال مجرمي صهيون أو تقر أعينهم حتى ينالوا جزاءهم وقصاصهم العادل

ختاما : قرار أنقرة بملاحقة نتنياهو مثل شرارة أولى قد تمتد إلى عواصم أخرى لتفتح الطريق نحو مساءلة طال انتظارها وتل أبيب تدرك أن هذه الخطوة لن تتوقف عند حدودها وأن صورة ” الزعيم المحصّن ” بدأت تتشقق أمام الرأي العام الدولي والمشهد اليوم مختلف ورئيس وزراء إسرائيل مطارد قضائياً خارج بلاده وخصومه يرسمون ملامح مرحلة جديدة عنوانها الواضح أن العدالة قد تتأخر لكنها لا تموت وما بدأته تركيا قد يتحول إلى وجه مؤلم لإسرائيل وحلفاءها ويضع نتنياهو وجهاً لوجه أمام حساب مفاجئ لم يكن يتوقع أن يأتيه من هذا الاتجاه

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
mahdimubarak@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.