الشبار يكتب عامر الصمادي… صوت المعرفة والتحول الإعلامي في الأردن

بقلم/ عماد الشبار
يشكّل الدكتور عامر عثمان الصمادي أحد الأسماء المهمة في المشهد الإعلامي الأردني، حيث جمع بين الخبرة الميدانية والرؤية الأكاديمية، فمزج بين الممارسة المهنية والعمل البحثي والتوثيقي. قدّم الصمادي نموذجًا للإعلامي الواعي بثقافة المهنة، الساعي إلى تطوير أدواتها ومواكبة تحوّلاتها الفكرية والمجتمعية، مما جعله من الشخصيات التي ربطت بين الإعلام كحرفة والإعلام كعلم.
منذ سنوات دراسته المبكرة، أظهر ميولًا واضحة نحو اللغة والثقافة والإعلام. التحق بجامعة اليرموك حيث نال درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي عام 1988، ثم حصل على دبلوم عالٍ في الترجمة من الجامعة الأردنية عام 1990، وهي المرحلة التي صقلت قدراته اللغوية وأسهمت في تكوين خلفية معرفية واسعة أهلته لخوض ميادين الإعلام لاحقًا بعمق وتميّز.
كما نال درجة الماجستير في الدراسات الدبلوماسية من المعهد الدبلوماسي الأردني عام 2002، ثم أضاف إلى رصيده الأكاديمي درجة الماجستير في الإعلام الحديث من معهد الإعلام الأردني، ما أتاح له الجمع بين التكوين الدبلوماسي والمعرفة العميقة بوسائل الإعلام المعاصرة وأدواتها الرقمية.
ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد؛ إذ واصل دراسته العليا ليحصل على درجة الدكتوراه في الإعلام الرقمي من معهد الصحافة وعلوم الأخبار في جامعة منوبة التونسية بتقدير “مشرف جدًا”، حيث تناولت أطروحته التحول الرقمي في القنوات التلفزيونية الأردنية، مسلّطًا الضوء على تحديات الإعلام التقليدي في زمن الثورة الرقمية.
بدأ عامر الصمادي مسيرته الإعلامية في التلفزيون الأردني مطلع التسعينيات، حيث عمل معدًا ومقدمًا للبرامج، فكان حضوره مميزًا أمام الكاميرا وخلف الميكروفون على حد سواء. امتلك نبرة صوت هادئة وواثقة، وأسلوبًا يجمع بين الرصانة والبساطة، مما جعله قريبًا من الجمهور.
وفي تلك المرحلة، قدّم مجموعة من البرامج الثقافية الرائدة التي رسّخت حضوره في ذاكرة المشاهد الأردني، من أبرزها برنامج “آفاق ثقافية” و*”إبداعات أردنية”* اللذان أضاء من خلالهما على المشهد الأدبي والفني المحلي، مسلطًا الضوء على مبدعين أردنيين في مجالات الأدب والفكر والفنون.
كما يُعد الصمادي أول من قدّم برنامجًا تلفزيونيًا عن البيئة في الأردن بعنوان “الإنسان والبيئة” عام 1992، حيث ناقش فيه قضايا التلوث والتوازن البيئي وحماية المصادر الطبيعية، في وقتٍ لم تكن فيه قضايا البيئة حاضرة بقوة على أجندة الإعلام العربي.
ولم يتوقف عند ذلك، إذ كان أيضًا أول من قدّم برنامجًا أسبوعيًا عن التربية والتعليم، تناول فيه تحديات العملية التعليمية ومشكلات الطلبة والمعلمين، فضلًا عن برنامج أسبوعي عن السياحة، ما يعكس تنوّعه واهتمامه بمجالات متعددة تخدم الوعي المجتمعي والثقافة العامة.
وفي منتصف التسعينيات، خاض تجربة عربية ثرية عندما عمل في راديو وتلفزيون العرب (ART) في العاصمة الإيطالية روما بين عامي 1997 و1999، حيث اكتسب خبرة دولية في إعداد البرامج وتقديمها ضمن بيئة مهنية منفتحة ومتنوعة ثقافيًا. وبعد عودته إلى الأردن عام 2000، استأنف عمله في التلفزيون الأردني مذيعًا ومحررًا للأخبار حتى عام 2005، قبل أن يتسلم مهامًا إدارية وتدريبية داخل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية، من أبرزها مدير مديرية التدريب والتطوير، وهي المرحلة التي أولى فيها اهتمامًا خاصًا ببناء قدرات الكوادر الإعلامية الشابة.
تنوعت البرامج التي قدّمها الصمادي بين الثقافي والاجتماعي والخدمي، لكنه ظلّ يرى أن الثقافة هي روح الإعلام. فقدّم العديد من البرامج التي اهتمت بالمضمون الفكري والإنساني، مؤمنًا بأن دور الإعلام يتجاوز الترفيه والإخبار إلى تثقيف المجتمع وتعزيز وعيه.
ومن أهم البرامج التي قدّمها برنامج “يا طير” في التلفزيون الأردني مطلع الألفية الجديدة، ليكون منبرًا للمغتربين الأردنيين المنتشرين في أصقاع العالم، وليربطهم بأهلهم وأحبائهم في الوطن. جاءت فكرة البرنامج بسيطة وإنسانية في آن واحد: أن يفتح مساحة تواصل حيّة بين المغترب الأردني في الخارج وأسرته في الداخل، عبر مكالمات ورسائل مرئية وصوتية تُبث على الهواء مباشرة، ليصبح البرنامج بمثابة “حمامة سلام” تحمل الشوق بين القارات.
وقدّم عامر الصمادي البرنامج بروح مليئة بالدفء والودّ، فكان الصوت الذي يُعيد الحنين، والوجه الذي يزرع الابتسامة على شفاه الأمهات والآباء المنتظرين كلمة من أحبّتهم.
لم يكن “يا طير” مجرد برنامج تلفزيوني، بل حالة وجدانية وطنية جمعت الأردنيين في الداخل والخارج على شاشة الوطن، فحمل الصمادي رسالة الوفاء والانتماء من خلاله، ما أكسبه لقب “سفير المغتربين الأردنيين”، ومنحه وسام النشامى من الدرجة الأولى تقديرًا لجهوده في هذا المجال الإنساني النبيل.
قبل “يا طير”، قدّم الصمادي عددًا من البرامج التي لاقت حضورًا واسعًا في التلفزيون الأردني، منها “لقاء مع فنان” (1994)، و*”دوري النجوم”، و”وطن وسياحة” (1996)، و”أحلى شباب”*، وكلها أظهرت قدرته على التنوّع في الأداء وتقديم المحتوى بمستوى راقٍ يجمع بين المعلومة والروح الأردنية الأصيلة. كما شارك في إعداد وتقديم برامج ذات طابع ثقافي وفني، واستضاف عبرها فنانين ومبدعين من الأردن والوطن العربي، ليؤكد مكانته كإعلامي يجمع بين المهنية العالية والحس الإنساني.
نال الإعلامي عامر الصمادي خلال مسيرته عددًا من الجوائز والتكريمات من مؤسسات إعلامية وثقافية أردنية وعربية، تقديرًا لعطائه المخلص ودوره في نقل صورة الأردن الجميلة إلى العالم، وتعزيز الانتماء لدى المغتربين الأردنيين من خلال الإعلام الوطني.
يُعدّ برنامج “يا طير” علامة مضيئة في تاريخ التلفزيون الأردني، وتجربة فريدة في الإعلام العربي، إذ قدّم نموذجًا لبرنامج يخاطب الوجدان ويُحيي الروابط العائلية والإنسانية عبر الشاشة.
ولعلّ أكثر ما ميّز عامر الصمادي هو صدقه في الأداء ودفء حضوره، فقد جعل من الإعلام رسالة إنسانية تُلامس القلوب قبل العقول، وبقي مثالًا للإعلامي الأردني الذي جمع بين المهنية والوطنية والإنسانية في أبهى صورها.
كما كتب مقالات وتحليلات إعلامية وثقافية في عدد من الصحف والمواقع الأردنية، تناول فيها قضايا الإعلام الأردني وتحدياته، مؤكدًا على ضرورة أن يكون الإعلام الوطني “منبرًا للمعرفة وحارسًا للهوية في زمن الانفتاح والرقمنة”.
الدكتور عامر الصمادي هو أيضًا باحث ومؤلف اهتم بتوثيق التجربة الإعلامية الأردنية. من أبرز أعماله كتابه “إعلاميون في سماء الأردن”، الذي صدر عام 2024، وضمّ بين دفتيه سير عشرات الإعلاميين الأردنيين الذين أسهموا في بناء صرح الإعلام الوطني عبر العقود الماضية.
وقد حظي هذا الكتاب باحتفاء واسع عند صدوره في المركز الثقافي الملكي بعمان، بحضور نخبة من الإعلاميين والمثقفين، إذ عُدّ مرجعًا مهمًا للأجيال الجديدة، ولفتة وفاء لجيل من الإعلاميين الذين صنعوا تاريخ الشاشة الأردنية وصوتها.
وللصمادي عشرة كتب منشورة حتى الآن، تنوّعت بين الإعلام والثقافة والاتصال المعاصر، من أبرزها كتابه الأخير بعنوان “التلفزيون والإعلام الرقمي”، الذي تناول فيه التفاعل بين البث التقليدي والمنصات الرقمية في العالم العربي، مقدّمًا رؤية تحليلية لتطور المضمون الإعلامي وأساليب التلقي الحديثة.
شكّلت دراسته للدكتوراه حول الإعلام الرقمي محطة مهمة في مسيرته، إذ تناول فيها اعتماد القنوات التلفزيونية الأردنية على الإعلام الرقمي من خلال دراسة تحليلية لقنوات مثل التلفزيون الأردني، قناة رؤيا، وقناة المملكة. وقد قدّم من خلالها رؤية نقدية بنّاءة تدعو إلى ضرورة تطوير الأداء الإعلامي بما يتناسب مع التحولات التكنولوجية المتسارعة، مشددًا على أن الإعلام الرقمي لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة للبقاء والتأثير في جمهور متعدد المنصات.
خلال عمله في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، أولى الدكتور الصمادي جانب التدريب والتأهيل المهني أهمية خاصة، فساهم في إعداد دورات متخصصة للمذيعين والمعدين الجدد، مركّزًا على الجوانب العملية والأخلاقية في العمل الإعلامي.
وقد عرفه زملاؤه ومدربوه بشخصيته الهادئة والمنفتحة، وقدرته على الإصغاء وتقديم النقد البنّاء، وحرصه على أن يبقى الإعلام الأردني منبرًا يعكس الصورة المشرقة للوطن وإنسانه.
في مقالاته وندواته، يطرح الدكتور الصمادي رؤى عميقة حول مستقبل الإعلام الأردني والعربي، مؤكداً على أهمية المزاوجة بين المهنية والمعرفة، الرسالة والوسيلة، الهوية والانفتاح. ويرى أن الإعلام يجب أن يتسلّح بالعلم والتقنية معاً، وأن يكون في خدمة الإنسان لا العكس.
كما يؤكد أن نجاح الإعلامي الحقيقي لا يُقاس بعدد برامجه أو ظهوره على الشاشة، بل بقدر ما يتركه من أثر فكري وإنساني في المجتمع.
حصل الصمادي خلال مسيرته على عدد من شهادات التقدير والتكريم من مؤسسات إعلامية وثقافية داخل الأردن وخارجه، تقديرًا لعطائه المتواصل وإسهاماته في تطوير المحتوى الإعلامي وتدريب الكفاءات. كما شارك في مؤتمرات وندوات محلية وعربية تناولت قضايا الإعلام والثقافة والاتصال المعاصر.
يمثّل الدكتور عامر الصمادي جسرًا بين جيلين من الإعلاميين: جيل الروّاد الذين بنوا مؤسسات الإعلام الأردني، وجيل الشباب الذي يعيش في قلب الثورة الرقمية. لقد استطاع أن يجمع بين الخبرة والتجديد، والهوية والانفتاح، والعمل الأكاديمي والميداني، فكان صوت المعرفة والتحوّل في الإعلام الأردني الحديث.

